عائد غير منتظر
الشاملة بريس: الكاتب – حميد لحاريشي
ترقبوا كل أسبوع سلسلة قصص من وحي الواقع للكاتب “حميد لحرايشي” على جريدة الشاملة بريس
طرق الباب ،أطلت من النافذة لترى من الطارق ،لم تر منه إلا جلبابه الأبيض وعصاه ،وبصوت مبحوح يعرف سامعه أنها عجوز على الطرف الآخر من الدنيا ،قالت :” شكون ؟”أجابها وفي صوته حشرجة ورعشة ،وقلبه يخفق بقوة :”أنا مسعود “،وفي لحظة أحس انه ديك مذبوح ،يلفظ أنفاسه الأخيرة ،وأيقن أن قلبه الهرم سيتوقف ،لم يكن يستطيع لقاءها ،ولم يكن ليجرأ على رؤيتها وقد خذلها في وقت كانت فيه زهرة يانعة اقتلعها من الجذور ،ثم رماها من غير خجل ولا وجل لتتقاذفها الأرجل ،غاص لبرهة من الزمن ، في ذكرياته المرة ،ثم انتشله صوتها ،من جديد ،من عالمه الذي لا يطيقه :”شكون مسعود ” .”افتحي يا حليمة ،وستعرفين من أكون ” ، اهتز جسمها النحيل لسماع اسمه ،وأخذتها رجفة قوية وفقدت رجلاها النحيلتان القدرة على حملها ،وجلست وراء الباب لاستعادة قواها . “أيكون هو ؟،ألم يمت بعد ؟من الذي ذكره بنا ؟لقد مرت ثلاثون سنة أو يزيد ولم نسمع عنه خبر ،أي ريح ساقته إلينا ؟ربما ،بعدما شاخ ،وفقد صولته وهيبته ،وأردته الدنيا ذليلا بعد عز ،لجأ إلينا ليحتمي بنا وقد سمع أن أبني الوحيد أصبح له شأنأ ” أقلقه تأخرها ،فدق الباب من جديد :”يا حليمة ،أدخلت عليك بالله الذي جمعنا من قبل على ود وحب أن تفتحي ” ،تيقنت بأنه مسعود : زوجها الذي تخلى عنها في عز شبابها وهي حامل منه بإبنها الوحيد ،تحركت فيها عاطفة الحب الذي ما زالت تكنه له ،فتحت الباب وعيونها تذرف من الدموع ما لا تستطيع معه إخفاء شوقها له . لم تر عليه علامات البؤس كما اعتقدت ،وجنتاه تعلوهما حمرة رغم التجاعيد التي لفت وجهه ،وبريق العز باد عليه ،ثيابه أنيقة ،ويبدو عليه الوقار ،لم تستطع أن تطيل فيه النظر ،أحست بهيبته المعهودة ،صمتا قليلا ونظر إليها مليا ،وقاطعت نظرته :” من الذي أتى بك ؟ألم تتخل عني ؟ّ” “أنا لم أتخل عنك ،يومها خرجت مسافرا إلى حيث تعلمين ،نزلت من الحافلة في المحطة ،وبينما أتجول في المدينة المعلومة دخلت زقاقا ضيقا أعترض فيه سبيلي بعض اللصوص لأخذ ما معي من المال ،حاولت الدفاع عن نفسي ،فضربني أحدهم على راسي ربما بقنينة ،فقدت الوعي ،اخذوا محفظتي ،نقلت إلى المستشفى ،عولجت ،ولكن أصبحت بلا ذاكرة ولا هوية ،غدوت مولودا لا يعرف من الدنيا شيئا ،خرجت من المستشفى بلا مأوى ولا عائلة ،ولم أعد أتذكر إلا ما وقع لي بعد هذه الحادثة ونسيت كل ما كان قبلها ،بدأت حياتي من جديد باسم جديد ،بت ليالي طوال في الحدائق العمومية ،وأكلت من القمامة ،وتسولت واستجديت المارة ،وتعرضت لمضايقات المتشردين ،وقد رق لحالي أحد المحسنين ،شغلني معه كمساعد في التجارة ،واصبح لي مأوى ومصروفا ،يومي ،كنت أنفق وأدخر ،واستقلت عن التاجر بعد أن تولى إبنه إدارة أعماله ،وأقبلت على الدنيا وانشغلت عن همومي بممارسة التجارة ،كبرت تجارتي وأصبحت ذا ما ل وجاه ،سافرت إلى أمريكا ،أقمت بها سنين طويلة أمتهن التجارة ،وكنت أحاول تذكر حياتي وأهلي ومسقط رأسي ووو ،كنت دائما أتساءل :” من أكون ؟من أهلي ،كيف في لحظة فقدت كل شيء ؟ ” .أخبرت أحد الأصدقاء بأمري ،اقترح علي استشارة طبيب نفسي ،وقد فعلت ،وبعد جلسات علاجية عدة ،استرجعت ذاكرتي جزئيا ،وقد أتيتك حال ما تذكرتك ” . بكت حليمة بكاء طفل سلب منه شيء ،اتصلت بابنها واستعجلته في القدوم ،دخل على أمه وجد معها الغريب ،سلم عليه سلاما عابرا ،سألها من هو ،تلعثمت في الجواب ،وترددت ،ماذا ستقول وقد أخبرته ان أباه قد مات بعدما بحثت عنه في كل مكان ،أعاد سؤاله :”أمي من هذا الرجل ؟” :”إنه أبوك ” ،” أبي مات يا أمي ” “لا يا بني لم أمت ،وما كانت أمك تعلم بما وقع لي ،لقد فقدت ذاكرتي إثر ضربة تلقيتها على رأسي ،ولم أعد أعلم شيئا عن نفسي أو عن عائلتي ،وقد علمت مؤخرا أن أمك ما زالت على قيد الحياة وأن لي منها ابن فأحببت لم الشمل وقدمت إليكم الآن من أمريكا حيث قضيت جل عمري”أحس الابن بصدق أبيه فعانقه عناق الطفل الخائف الملهوف .