الشاملة بريس: الكاتب- لحرايشي حميد
ترقبوا كل أسبوع سلسلة قصص من وحي الواقع للكاتب “حميد لحرايشي” على جريدة الشاملة بريس (06)
مرت سنوات على زواج يزة من العربي ،لم تنجب له أولادا ،مع أن أخصائيي النساء والتوليد أكدوا أنها غير عقيم ،كان يحبها أكثر من حبه لنفسه ،همه الوحيد هو أن تنجب له ،لم يترك وصفة اقترحت عليه إلا وقد جربتها يزة ،لم يكن يثق فيما يقوله الأطباء ،لذلك لجأ إلى التوسل بالأولياء الصالحين .
طاف العربي بزوجته حول الأضرحة ،يتبرك بهذا الولي بذبيحة ،وبذاك بهدية ثمينة ،كان ينفق كل ما يكسبه من عمله كخضار للحصول على خلف يخلفه في تعاسته .
بعد مرور شهرين على رجوعهما من زيارة أحد الأضرحة أخبرته يزة أنها حبلى ،شل لسانه وأحس برجة في دماغه ،وتسمر في مكانه لا يقوى على حركة ،يحملق بعينين ثابتتين في وجهها من دون أن ينبس بكلمة ،وفي لحظة تفرقع مقهقها بصوت عال وصل صداه الجيران ،ثم جثم على ركبتيه وأخذ يقبل يدي يزة وبطنها ،ويأتي بحركات حمقاء حتى ظنت أن الخبر أفقده صوابه .
اهتم العربي ،بعد تلقيه البشرى ،بزوجته ،واعتنى بها عناية خاصة لم تكن تحلم بها من قبل ،وقام مقامها في أشغال البيت ،أصبحت ملكته المدللة ،تطلب ونرفض ،تأمر وتنهى ،وأصبح خادمها المخلص المطيع .
مرت سبع شهور على العربي كانها سبع سنوات ،كان حريصا على معرفة موعد الوضع ،أحب الطفل وتاه في حبه قبل أن يولد ،وتأهب لجمع المال من أجل أن يقيم عقيقة تليق بمقام ابنه الأول ،سماه الغالي قبل مجيئه إلى الدنيا ،كان يتحدث إليه في كل لحظة ،يدنو من بطن يزة يضع أذنه ينصت لحركات الجنين ويقول :”يا ولدي اشتقت لرؤياك ،أقبل ،أريد أن أحضنك ،أريد أن يعرف كل الناس أنك إبني الغالي” .
أخيرا حصل العربي على ما يريد ،أنجبت له يزة طفلا ذكرا جميلا كأنه فلقة قمر ،سماه الغالي ،أحبه العربي أكثر من حبه للدنيا ،أنساه الغالي كل السنوات التي عانى فيها الأمرين ينتظره ،لم يكن العربي يترك الغالي لحظة واحدة عند رجوعه من عمله ،حمل الغالي السعادة إلى البيت ،ومنح الأبوين حياة جديدة ،شكله ،شعره الأسود اللامع الذي تحمله أخف نسمات الريح في جميع الاتجاهات ،عيناه الهلاليتان الواسعتان ،شفتاه ،وجنتاه ،حركاته ،ابتسامته ،سكونه في نومه …،أحب الزوجين في ابنهما كل شيء .كان بلسما يشفي جروح الروح ،ويبدد الأحزان والهموم .
يكبر الغالي ويكبر حب الأبوين له ،لم تعد الحياة تحلو إلا في وجوده ،أصبح شابا يافعا ،مكتمل البنيان ،جميل الخلق والخلقة ،لكن لم يكن كغيره من الشباب في سنه ،كان هادئا ،قليل المرح والدعابة والكلام ،ميالا إلى العزلة ،قلما تجد الابتسامة على ثغره ،منطويا على نفسه ،لا يعير لمن حوله اهتماما ،لم يتمكن العربي ، في جلسات عدة مع الغالي ،أن يعرف سبب انطوائه ،وتستمر سعادة الأبوين بابنهما رغم كل شيء .
في يوم من أيام فصل الشتاء من سنة 1998 تناول الغالي وأمه وأخته نادية وجبة الغذاء ،لم يأكل إلا القليل من الطعام وتوارى واجما نحو الحائط ،نظر إلى أمه ثم إلى أخته ،وتدلت من عينيه دمعتان مسحهما بسرعة وأحنى رأسه لكي لا يثير انتباههما ،انقبض قلب الأم ،وارتابت الأخت لأمر أخيها ،رفعا أيديهما عن الطعام ،جلسا قربه ،سألته أمه :”ما بك يا روحي ؟”،لم يجب ،لم يستطع البوح بما في داخله ،أيخبرها أنها سبب تعاسته ،كتم سره بداخله عانق أمه وأخته قبلهما وخرج .لحقت به أمه تستعطفه للبقاء ،لكنه غادر وكأن لم يسمعها .
بعد عصر نفس اليوم ،انتشر في السماء سحاب داكن ممطار ،وحل بالأرجاء ضباب كثيف ،وساد القر ،الجو ينذر بعاصفة هوجاء ، ولم يعد الغالي ،أسرته تنتظر ،الانتظار وسط هذه الظروف مخيف ،أذن المؤذن لصلاة المغرب ولم يظهر له أثر ،عسعس الليل وأرخى سدوله وجن ،والبس السماء بردته البهيم ،ودوى الرعد يعزق مصحوبا ببرق يخطف الأبصار ، وانهالت الأمطار على المكان بوابل أخلى الشوارع والأزقة ،وانسابت أودية تسحب معها كل ما تجد في طريقها ،وقضت مضاجع الأنام بخريرها ،وبددت هدوء الفضاء وصمته ،زمجرت الرياح وصرصرت ،وطقطقت لهبوبها صفائح سطوح براريك الحي ،وعم عويلها الأرجاء وتراقصت لها الأشجار وتغنت بحفيفها الصاخب ،واجتث بعضها ،وتمايلت أعمدة المصابيح وقطع التيار الكهربائي ،مما زاد المكان رهبة ووحشة ، ،فصل الشتاء نزل بثقله وصواعقه وأرعب الناس وأدخلهم إلى بيوتهم ،كان الحي القصديري في هذا الوقت من الليل يرزح تحت غضب الطبيعة ، أوصدت الأبواب والنوافذ ،وركن الناس إلى المواقد والمدفئات ،بينما كان العربي يتوسد الحائط ويضربه برأسه ضربات خفيفة ،ويهمهم بكلمات لا تسمع منها زوجته وابنته إلا “الغالي يا الغالي ” ،قام العربي من مقامه ،أخذ يتنقل في بيته جيئة وإيابا ،يداه لا تقفان عن الحركة ،أحيانا يلطم يهما خديه ، مقلتاه تدوران بسرعة ،من حيرة ،كما البومة تبحث عن طريدة تأكلها ، ،وصل القلق بالعربي منتهاه ،هزت الوساوس سكينته ،الساعة الواحدة صباحا ،ابنه الغالي لم يعد بعد ،اعتاد أن يدخل إلى البيت وأذان العشاء ،نظر العربي إلى زوجته يزة التي تدثرت بملاءة أنهكها الاستعمال وتآكلت من أطرافها ،وقد ضمت ركبتيها إلى صدرها بحثا عن الدفء ،كانت المسكينة ترتجف من البرد وتذرف عبرات سوداء تنساب في رفق على خديها القرمزيين وتشق طريقها نزولا حتى الذقن حاملة معها كحل عينيها ،كانت تبكي في صمت ،ومن دون أية حركة سألها العربي سؤالا لم يكن يريد طرحه ،سِؤال يذكره بخيبة أمل ركبت على متنها صدمة طعنته في ظهره ،”أيكون الغالي قد تركنا ؟ هل علم بحقيقة أمره ؟إن كنت قد أخبرته فلن أسامحك” ،لم ترفع يزة رأسها وانفجرت باكية بصوت مسترسل مبحوح ،ظلت تبكي حتى سقطت مغشيا عليها .اقترب العربي منها حابيا على ركبتيه ويديه ،رفع رأسها ،وضعه على فخده ،وأخذ يدلك أصابع يديها المتشنجة ،وينفخ عليها من أنفاسه ليمنحها قليلا من حرارة جسمه ،عانقتها ابنتها تتوسل إليها لتكف عن البكاء ،توقفت ولم تتوقف دموعها عن النزول .
لم يصبر العربي على غياب الغالي ،ولم يستطع الانتظار أكثر ،فخرج للبحث عنه .
خرج العربي ،في حلكة الظلام والناس نيام ،يرفل في برك الماء المنهمر ،وأحيانا تغرق قدماه في الوحل ،والمطر لا زال ينزل خيوطا من السماء ،والبرق تشخص له الأبصار ،طرق أبواب الجيران وأيقظهم سائلا عن الغالي ،لا احد أخبره بشيء يفيده أو يهدئ من روعه .لم يجد للغالي أثرا لا في المقاهي ولا في مخافر الشرطة ولا في المستشفيات ،عاد العربي ،قبيل آذان صلاة الصبح ،يجر رجليه من خيبة الأمل وأسنانه تصطك وجسده يرتعش من شدة البرد يداه مضمومتان إلى صدره ،وقد أثقل جلبابه المبلل وحذاؤه المليء بالوحل كاهله .
فتح باب المنزل ودلف إلى الداخل يبكي بكاء الثكلى ،اهتز قلب زوجته وقفزت من مكانها مرعوبة نحو العربي وسألته عن ابنها الغالي ،لم يجبها واسترسل في البكاء .تيقنت يزة ان الخطب جلل ،وأن الخطر جسيم ،هي تعرف ان العربي يستحيل أن تدمع عيناه حتى وإن ماتت الأمة كلها وبقي وحيدا ، إبنها في ورطة ،إنه الشيء الوحيد الذي قد يحزن له العربي إن أصابه مكروه ،يخاف عليه حتى من الذباب .ظل العربي يبكي بنحيب مسموع ،ينتف شعره ،يضرب الحائط ، يقوم من مكانه ثم يجلس ،سألته زوجته عن فلذة كبدها مرات متعددة لم يشف غليلها ببنت شفة .أحيانا يرفع رأسه إلى السماء يبتهل إلى الله ليعود الغالي سالما غانما .
انبلج الصبح وقد هدأت العاصفة ،وتبددت الغيوم ،وسطعت الشمس ،كان العربي وزوجته وابنته مجتمعين على إيقاع بكاء جنائزي ،نحيبهم وحزنهم يوحي بمأتم عج البيت بالجيران ،كلهم يسألون عن الغالي الذي غاب ولم يعد .
تأهب العربي من جديد للبحث عن الغالي ،خرج يجوب الشوارع والأزقة ،ويسأل أهل الحي عنه ،لم يترك بطنا ولا مفازة ولا سهبا ولا شعبا إلا بحث فيه ،كأن الأرض ابتلعته .
طرق في اليوم الموالي مقدم الحي باب منزل العربي وسلمه استدعاء من أجل الحضور بشكل مستعجل إلى مخفر الدرك الملكي ،بعد ان أدلى بهويته
وعرف أنه أبو الغالي سلم له طرف أصفر مكتوب على واجهته بخط الغالي :تسلم هذه الرسالة إلى ابي العربي .
فتح العربي الظرف وأخرج منه رسالة جاء فيها :
السلام عليكم .
لا أدري بماذا سأناديك ،أبي أم السي العربي ؟ولكن تكريما لك ولحبك لي وحبي لك سأقول أبي العربي ،لا أنكر أنني أحبك وأسرتي حبا ليس له نظير ،ولا اقوي على فراقكم ،وما كنت أحب أن أفارقكم يوما ،لكن للأسف ،أحيانا يخلق القدر أشياء تخرق العلاقات وتمزقها .
لقد سمعتك وأمي تتحدثان ،وأنا في العام السابع من عمري ،عن أمر لم أكن أعره اهتماما وأنا طفل ،كنت بينكم ألعب وأمرح وأنط كما ينط القط فرحا بدحرجة كرة ،كم لاعبت الدنيا وداعبتها ،كنت أراها تحضنني حين أستلقي على ظهري وأبتسم ،وكم مرة اختبأت منها ،في لعبة الغميضة ،وراءك أو وراء أمي ،ولما جاءت أختي للدنيا ،أصبحت وإياها جسدا واحدا ،أحسست بقلبها ينبض بداخلي ولم أعد أفكر في شيء غير وجودكم بقربي .
كبر ما سمعته وتعاظم في حياتي ،وليتني لم أسمعه ،وغرس بداخلي رماحا وخزتني أحيانا كثيرة ،واستفزتني استفزازا ،وحاولت تجاهل آلامها فقط لأني أحبكم ،كثر الوخز واستحال وساوس وهلوسة لطالما أخفيتها عنكم لكي لا أسحبكم معي في بحر معاناتي ،ولكن يا أبي العربي ،طفح الكيل ،ولم أعد قادرا على حمل ذاك الثقل ،أتذكر يا أبي العربي ،أنك في يوم من الأيام دخلت تزبد وترغد وتزمجر في وجه امي ،وأخذت المسكينة من ذراعها ورججتها رجة كادت تسقط رأسها من على كتفيها ،وسألتها صارخا :”إبن من هذا ؟” أجابتك مرعوبة بأنني إبنك ،صرخت في وجهها أن الطبيب أخبرك أنك عقيم ولا يمكنك الإنجاب إلا بعد عملية ،أقسمت لك أمي بكل مقدس أنني ابنك وأنها لم تخنك يوما ،لم تصدقها ،حينها قالت لك :”إن كنت حقا عقيما ،فهذا يعني أننا خدعنا في الضريح ،هل تذكر الشاي الذي أعد لنا ،شربناه ونمنا في الحال ،لقد جاءني في تلك الليلة رجل بجلباب أخضر وبردة بيضاء وقبعة ناصعة الخضرة ،وسحبني من يدي إلى غرفة كلها ستائر من نفس ألوان لباسه ،وأكد لي انه الولي الذي استجرنا به وأخبرني أنه سيمنحنا الابن الذي تبحث عنه ، كنت حينها كسكرانة ولم أفقه ما يحاك بنا ،وقد رويت لك في الصباح ما جرى على أنه حلم ،وأكدت لك أنني رأيت نفس الرجل ،في نفس اليوم ،بلباس عادي جدا يتجول بين الناس في قبة الضريح ،قد يكون ما ظنناه حلما حقيقة ،لقد خدعنا انا وأنت ،وأنت السبب ،ما كان عليك أخذي للاضرحة ،كنت ترفض
ان يفحصك الأطباء والآن تأتي لتقول لي أنك عقيم اقتلني إن شئت،” اعترفت انك انت المذنب ،وقبلت الواقع واستكنت له ،وتأكد لك الأمر بعد ان أجريت العملية وأنجبت لك أمي أختي بعدها ،لكن انا ،ما هو ذنبي ،إن قبلت أنت ورضيت ،فأنا لا أطيق أن أعيش بهوية مستعارة ،لا أرضى أن أكون ابن الضريح وأعيش في كنفك ،أسمع كل يوم حديثكما يتردد في أذني ،لن انتظر أكثر الحمل يزداد ثقلا ،أبي العربي بلغ أمي وأختي أنني أحبهما وأحبك أنت أيضا ،واعلم أن رسالتي هاته ستصلك بعد أن أكون قد رحلت عنكم إلى الأبد .
انهى العربي قراءة الرسالة وهو يبكي وينوح ،سأل الدركي وعيناه تفيضان دمعا:”أين إبني الآن ؟هل هو بخير ؟” ،”للأسف وجدوه وقد شنق نفسه بشجرة وسط حرج في الغابة المجاورة للحي ،وهو الآن بمستودع الأموات بالمستشفى المحلي .