الشاملة بريس- بقلم \ الكاتب و المفكر خالد محمود عبد اللطيف
رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
في القرآن الكريم – كما في السيرة والسنة الصحيحة – منهج تربوي يجمع بين المثالية والواقعية، ويحقق للإنسان القيادة في صناعة الحضارة من خلال الإنسان الفرد، والأسرة، والمجتمع الذين تتحقق فيهم شروط الارتقاء.
- لقد قدَّم الرسول – عليه الصلاة والسلام – المنهج التربوي الملائم للإنسان؛ لتحقيق عبوره من ظلمات الشرك والوثنية إلى الإسلام، وإن معالم هذا المنهج لتتجلَّى في مزْج الإيمان بالأخلاق والسلوك، وتربية الضمير في النفس المؤمنة اللوَّامة، والتربية على الثبات أمام المطامع والشهوات، والربط بين الإيمان بالله والعزة بالنفس، والثقة في نصر الله، والاستهانة بالزخارف ومظاهر العظمة الجوفاء، والتربية على الشجاعة النادرة، والاستهانة بالحياة، والتدريب على اقتلاع جذور العصبية الجاهلية، والتربية على تحمُّل المسؤولية: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته))، وعلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والتربية على الحبِّ في الله والأخوة في الله!
ويرى الداعية الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي أن على الداعية أن يحيا هذه المعاني المهجورة في باب الدعوة، عن طريق البرامج العملية، والوسائل التربوية، والنماذج السلوكية التي يجب أن يتصيَّدها من الماضي والحاضر، من سلوك الأفراد وسلوك الجماعات.
- وهي وجهة نظر حيَّة، يذكرها داعية كبير هو الشيخ/ أبو الحسن الندوي، وتمثل عصارة تجاربه وأفكاره، وعلى الداعية والعاملين للإسلام أن يَستوعبوا هذه التجارب التي يقدمها الدعاة الكبار؛ مثل: الشيخ / محمد عبدالوهاب، أو الشيخ/ أبي الحسن الندوي، أو الشيخ / محمد الغزالي، وغيرهم ممن واجهوا مشكلات معاصرة.
- • • •
إن فنون التجميع وحُسن التحدث والتحاور مع الناس، من أهم عوامل نجاح الداعية، وهي فنون لا تنتهي الإضافة لها والتحوير فيها، ولكن خطوطها الأساسية وأمثلتها النموذجية تنحصر في بعض القواعد؛ ومنها:
أ- ضرورة تكميل الرصيد التربوي الواقعي الذي ترَكته طبائع المجتمع في الفرد.
ب- مبادرة الداعية للتكلم بما يناسب حاجة المدعو.
جـ- تكثيف المبرِّرات الواقعية لوجود العمل الجماعي.
د- الأخذ من كل مدعو حسب طاقته، والعطاء له حسب حاجته.
هـ- تحبيب أجواء المسجد ومناخه للمسلمين.
ز- التأني في اختيار وسائل التأثير في المدعوين واختيار الجرعة.
ح- جاهد في سبيل أن تكون أنت القدوة، وأن يرتبط عملك بقولك، فالطامَّة الكبرى في عصور التخلف هي الانفصال بين القول والعمل، مع أنه قد ثبت فشلُ هذا الأسلوب، فالدعاة المخلصون العاملون هم وحدهم المقبولون.
ط- البداية بالأقربين.
ومن واجبات الداعية أن يبتدئ دعوته بأهله وذوِي قُرباه، انطلاقًا من قول الله تعالى:
﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، واقتداءً بالنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي ابتدأ بعرض الدعوة على زوجته خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وصديقه أبي بكر، فآمنوا جميعًا – رضي الله عنهم – وهو في ذلك يتمثَّل قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]؛ وذلك لأن الاهتمام بشأنهم أولى، ولأنهم أحق الناس بالإحسان الديني والدنيوي، كما أنه بذلك يُقيم الحق عليهم؛ حتى لا يكونوا ذريعة للأبعدين في الامتناع[1] عن قَبول الدعوة للإسلام.
- وليس معنى ذلك أن يكفَّ الداعية عن الدعوة إذا حاربه قومه، فليس عليه إلا البلاغ، وله – بعد أن يبذل جهده – أن يتعزَّى بما وقع لأنبياء الله الكبار: نوح ولوط، وخاتمهم محمد – عليهم الصلاة والسلام – فلا يَقدح فيهم عدم استجابة بعض ذوِيهم.
ي- التعرُّف على المدعوين.
ومما لا شك فيه أن معرفة المدعو وتقاليده، وموافقته فيما يَميل إليه ويهواه (من المباحات)، عاملٌ مهم في استمالة المدعو إلى دين الإسلام، كما أن تعرُّف الداعية على المدعو يُتيح له الفرصة؛ ليتعرَّف على خصائصه وطبائعه، وطرق التأثير فيه، وكيفيَّة الوصول إلى إقناعه، وتطييب نفسه، وإزالة الوحشة عنه عن طريق الترحيب به، وملاطفته، فبالتعارف يحصل التواصل[2] الذي هو بداية الدعوة؛ ولذلك حثَّ الله تعالى عليه بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، كما أن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يبدأ مَدعويه بالتعرُّف عليهم، وخبره مع “عداس” في رحلته إلى الطائف[3] خير دليل على ذلك.
وفي عصرنا الذي تتعدَّد فيه الثقافات والخلفيات الفكرية يبدو التعرُّف على المدعو للإسلام شرطًا أساسيًّا من شروط الدعوة الناجحة للإسلام، وبدون هذا التعرف والتلطُّف في حلِّ ألغاز الخلفية الفكرية، ومعالجة نقاط الضَّعف فيها بحكمة وعلمٍ، قد يخسر الداعية قضيَّته بالجملة.
ك – تقدير ذوي الشرف العالي، ومخاطبة الناس على قدر مستواهم الاجتماعي والثقافي والسياسي:
أجَل، إن على الداعية أن يقدر ذوي المكانة العالية حق قدرهم، ويُنزلهم منازلهم اللائقة بهم؛ لما في ذلك من مصلحة للدعوة والدعاة معًا، فطالبُ الرياسة – ولو بالباطل – تُرضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلاً، وتُغضبه الكلمة فيها ذَمُّه وإن كانت حقًّا[4]، وذلك ما يُفهم من أمر الله تعالى لموسى وهارون – عليهما السلام -: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]، ومن حِرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على العناية بالسادة والكُبراء والأشراف من الناس، مُعلِّلاً ذلك بقوله عن أحد المُؤلفة قلوبُهم: ((إنه رأس قومه، فأنا أَتألفهم به))[5].
- وكم فشِل الدعاة في تبليغ دعوتهم عندما عجزوا عن تقدير ذوي المكانة، ومخاطبتهم بما هم أهله؛ تأليفًا لقلوبهم، وشرحًا لصدورهم؛ حتى تتَّسع لقَبول كلمة الحق، وتتعاطف مع الدعوة ورسالتها، ورجالها وأهدافها العليا.
- • • •
وعلى الداعية أن يُعنى بدعوة الناس جميعًا، بلا تمييزٍ أو تَفرِقة، منطلقًا من قوله تعالى:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1]، ومن قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((وبُعثت إلى الناس عامة))[6]، فالدعوة تكون لجميع الناس؛ مسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة، وغير مسلمين بعرْض الإسلام عليه بلا إكراهٍ أو تفريط.
وفي أوساط المسلمين على الداعية أن يكون قادرًا على مخاطبة المثقفين وأصحاب الكفايات العلمية بما هو مشترك بينهم، وبين قضايا الدعوة، ومما يمكن أن يُسهموا به في الدعوة إلى الله في ضوء تخصُّصاتهم.
وفي الوقت نفسه يكون قادرًا على مخاطبة أنصاف المثقفين، بل وعامة الناس رجالاً أو نساءً.
ومن الضرورات الفكرية فقه الداعية بحقيقة فريضة الجهاد في الإسلام؛ لأن بعض الدعاة يزعمون أن الإسلام قادم منذ بدايته لاستعمال عصا (الجهاد) الغليظة في التعامل مع خصومه، وأنه إذا كان قد هادَنهم يومًا، فلضرورات موقوتة، ثم شرَع يجتاحهم بعد ذلك دون هَوادة، ويرفض الشيخ/ محمد الغزالي هذا الكذب قائلاً:
“لقد قرأت لنفرٍ منهم كلامًا في أن الإسلام دين هجومي، يَضع خُططه للحرب لا للسِّلم، وشعرت بالغيظ لتحريف الكلِم عن مواضعه من ناحية، ولتناوُل الوقائع دون أدنى وعي بملابساتها من ناحية أخرى”[7].
مع أن هؤلاء عجزوا عن معرفة أدب الحوار الطويل مع المخالفين للإسلام، وتجاوَزوا الآيات القرآنية الكثيرة التي أربت على المائة، والتي تجادل غير المسلمين بالتي هي أحسن، وتدعوهم إلى كلمة سواء، وترفض سَبَّ عقائدهم أو ظلمهم.
- وعلى الداعية أن يعي جيدًا أن الحضارة الأوروبية في كل أشكالها عاجزة عن حلِّ مشكلة (السعادة الإنسانية)، فلا بد أن تكون فكرة الدين عن أصل الإنسان هي الفكرة الصحيحة، وفكرة العلم تحتاج إلى تعديلٍ، وبالتالي فليس بإعادة الأخلاق وحدها يسعد الإنسان، كما أن التقدم العلمي مهما كان واضحًا بارزًا، لا يُمكنه أن يجعلَ الأخلاق والدين غير ضروريين، ولا يمكنه أن يحقق السعادة، وعلى الرغم من أنه بالإمكان أن يوجد ملحدون على أخلاق، فإنه لا يمكن أن يوجد إلحاد أخلاقي، والسبب هو أن أخلاقيَّات اللادين ترجع في مصدرها إلى دين.
وفي رأي البريطانية التي أسلمت “ماري ويلدز” أن أفضل طريقة لتقديم الإسلام إلى الإنسانية في بلاد الغرب، يكون عن طريق تقديمه على أنه التفسير المنطقي للكون؛ أي: نحن والكون؛ أي: إننا بحاجة إلى أن نقدِّم الإسلام للأوروبيين كما يُبيِّنه القرآن الكريم، وهذا يعني أنه يجب أن يُوضَّح أن الله العليّ القدير – سبحانه – لم يخلق الإنسان والكون من حوله عبثًا، بل خلق هذا الكون الجميل البهيج، ومنح الإنسان منحة العقل، وأرسل الأنبياء، وأنزل الكتب لهداية هذا الإنسان، وختَمهم بالرسول الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم – وبالقرآن الكريم؛ وذلك ليساعد هذا الإنسان على الحصول على معتقد منطقي حقيقي حول وجوده ووجود الكون.
وأما بالنسبة لفقه الداعية لأسلوب عرض الإسلام للنساء الأوروبيات، فيبدأ بالطريقة نفسها التي يعرض بها للرجال، لكن يضاف إلى ذلك الإلماع أو الإشارة المركزة إلى أن واقع المرأة في الغرب مُحزن للغاية، فالنظام القائم يستغلُّ عرْض أجسامهنَّ لأغراض الإعلانات والدعاية، فضلاً عن دفع الآخرين للنَّهم الجنسي، وتشجيعهم عليه، علاوة على ذلك الإسراف في عرْض الأزياء، وملاحظة الزينة وتغيُّر الأثاث، بما يسوقهنَّ إلى البحث عن عملٍ، والحصول على فُرَصٍ متساوية مع الرجل في مجال العمل والمهن بحجة المساواة، يا للفرق بين هذا الموقف وموقف القرآن الكريم.
الإسلام رحمة للمرأة؛ وذلك لأنه يعرف طبيعة المرأة التي جُبِلت عليها، ويعرف ما يناسبها من اللباس والحاجات، ويعرف القدرات التي تتمتَّع بها، فيحدِّد وظيفتها وفاقًا لها، ويمنعها من بعض الأعمال رحمةً بها؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ويفرض لها – أو عليها – بعض الأعمال التي يَعجِز الرجل عن القيام بها، فهي أقدر على أن تكون المَحضن الطبيعي، ولا سيما في سنواته الأولى؛ تسهر حيث لا يستطيع الرجل أن يَسهر، وتتحمَّل بكاء الولد ومخلفاته وأمراضه، بما لا يستطيع الرجل أن يتحمل، وهي تجد في ذلك لذَّتها ورسالتها، ولا يجد الرجل ذلك في نفسه.
- • • •
ومن الضروري الإشارة إلى أن الداعية سيجد في طريقه ناسًا يَعجِزون، وقد ييئَسون دون أن يبذلوا الكثير أو القليل في مجال الدعوة، وهؤلاء مسلحون تسليحًا قويًّا بما يَلوكه الناس من تقاعُس الحُكام، وتفرُّق الدول الإسلامية، وذيوع الترف والانحلال بين المسلمين، وكثافة الغزو الإعلامي والثقافي، وندرة المقاومة الإسلامية الفاعلة والمنظمة، إلى غير ذلك مما يهدِّد الحاضر والمستقبل من صور العولمة الاقتصادية التي قد تأتي على الأخضر واليابس بالنسبة للصناعات المحلية والوطنية والإنتاج القومي، وكل ما يقوله هؤلاء لا يستطيع أحد أن يُجادل فيه بالنسبة لتلك الومضة التي نعيشها، إلا أنَّ الدعاة إلى الله عليهم أن يثِقوا في الله، ويُحاربوا اليأس، داعين إلى التغيير الهادئ العاقل الحكيم في ضوء الإيمان الراسخ بأن الأمور كلها بيد الله، وبأن (الله أكبر) من كل القُوى المتربصة بالإسلام والمسلمين، وبأننا نحن المسلمين نملك ميثاقًا أكيدًا وعقدًا لا يتخلَّف بيننا وبين الله – سبحانه وتعالى – ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز ﴾ [الحج: 40].
________________________________________
[1] إبراهيم بن عبدالله المطلق؛ التدرج في دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – ص 101 وما بعدها بتصرُّف طبع مركز البحوث والدراسات الإسلامية، ط1، ص 1417هـ بالسعودية.
[2] إبراهيم بن عبدالله المطلق؛ المرجع السابق، ص 105 وما بعدها بتصرف.
[3]إبراهيم بن عبدالله المطلق؛ المرجع السابق، ص 106.
[4] ابن تيمية؛ مجموع الفتاوى 10/ 599؛ نقلاً عن إبراهيم بن عبدالله المطلق؛ التدرج في دعوة النبي، ص 115.
[5] ابن حجر؛ فتح الباري 1/ 44، وراجع: التدرج في الدعوة، ص 115.
[6] رواه الإمام البخاري: كتاب التيمُّم، برقم: 323.
[7] جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، دار الكتب، الجزائر، ص7، ص29.