الشاملة بريس- بقلم: زايد الرفاعي
في زهوة من رتابة دامية، قررت أن أتجول في أرجاء الكلية متفرسا اهتمامات الطلبة، أو بصيغة تقدمية الشريحة التكتيكية التي يحتمل أن يصير بعضها صناع قرار..!
ارتديت معطف الصحفي الذي يسكنني وتقمصت دور محقق استقصائي مجهزا أدواتي لإنجاز تحقيقا ميدانيا سريعا، عنونته افتراضا ب “آخر اهتمامات الطلبة وأول مطالبها”.
لم يكن التحقيق فضولا ولا ترفيها، وإنما قراءة سميائية ثاقبة لواقع كئيب من موقع بئيس!
في الجناح المخصص للطلبة الباحثين بسلكي الماستر والدكتوراه ثلات فتيات يرتدين سراويل جينز جميعهن سافرات الشعر واللسان، يضعن الكثير من الميكاب، بأسلوب المناوشات يتجاذبن أطراف الحديث عن حارس الأمن (السيكيريتي) الذي يقف قبالتهن، ويتغزلن به من رأسه إلى أخمص قدميه.
تقول الأولى: أشرف شاب وسيم تثيرني عيونه الخضروتين.
الثانية تعقب: تجذبني مشيته، عندما يمشي يبدو كبطل سينما في دور أكشن، عضلاته مفتولة، عندما يقف منتصبا هامته أرى فيه شيئا من “جون سينا” تنتابني رغبة في تقبيله خلسة ثم أهمس له ” You can’t see me”.
أما الثلاثة؛ فتكتفي بتنهيدة تتأرجح بين الحسرة والتمني، وتردد: لكنه حارس أمن، إنه حارس أمن فقط.
والمسكينات للأسف؛ كونهن سطحيات، عدميات فكر، وعقولهن خرساء أساور لا يعلمن أن أشرف علاوة على عمله الشريف الذي يعكس رجولة ربما يفتقدنها في ديارهن، يستكمل دراسته في نفس الكلية بشعبة لن يستطعن إلى فهم ماهيتها سبيلا.
على بعد خطوات، طارق طالب أدب عربي، يمسك بيد سجارة، وبالأخرى يد حبيبته التي تقف يساره حاجبة أشعة الشمس من إيقاق حرارة جسمه المقعد.
طارق معروف في الجامعة فقد كان من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولطالما تساءلت وربما تساءل الطلبة على الداعي الذي يدفعه إلى التدخين.
أتكون رسالة مضادة إلى ذات تلتهب ببطء؟ هل نداء لخلاص مضرم من عذاب أشد إضراما؟
أم احتجاجا ضد إعاقة تقف سدا منيعا بين آماله الثقافية وآلامه الطبيعية؟
لكن؛ طارق كان طبيعيا في إيحاءاته وإيماءاته وإبداعاته أكثر من الواقفة أجسامهم، النائمة أفكارهم.
فقد كان شاعرا؛ وفي كل قصيدة يبرهن أن الإعاقة إعاقة فكر وإرادة.
كان من الشموع النادرة التي تتوهج نورا داخل أسوار مظلمة.
وإن كان الشعر يجعله يمشي بلاغة، فإن قصة حبه ومعشوقته جعلته يطير مجازا.
أدخل إلى المقصف (lbuvette) أقتني سمراءا مرة لا تختلف كثيرا عن مرارة وطننا الحبيب.
أنقل قلمي الوسيم من جهة اليمين إلى جهة اليسار، كي أعاقبه بسلب حريته قبل أن يسلبني حريتي!
أمشي بضع خطوات ثم أتوقف عند نافورة ضريرة تتوسل قطرات دموع من عيون زهور صماء، ألمح حولها ثلة من الطلبة يتيهون حول حلقية يسمونها عرفا (شكلا)، شكلا متحولا لا يحيل على مضمون ثابت.
هناك كل شيئ يتغير ويتبدد ما عدا الأعراف والمعاطف والقبعات وأنين الشعارات وأزرار الأيديولوجيات.
هناك تلفي أجسادا تختلف وأرواحا تأتلف، أجسادا على الأرض تفترق وأرواحا في السماء تحترق.
هناك تجد علامات تدبر ورموزا تفكر وأيقونات تقرر، علامات تجسدت ورموزا تقمصت وأيقونات في سجون الرجعية هواجسها تغيرت.
في خضم الحلقية تلمح؛ هنا جيڤارا وماركس، وهناك عبد السلام ياسين وسيد قطب، وبينهما الأمير الخطابي والملكة ديهيا.
تلفي كل شيئ؛ اللامنطق، واللافلسفة، واللافكر، واللاتاريخ.. وبالمقابل تجد العكس والنقيض.
تلفي هويات تفتت ومبادئ تمزقت!
في جو من التناحر الأيديولوجي، والتجاذب الهياتي، والحيرة الدغمائية… استرق مسمعي عبارة غريبة مسكوكة بصوت شاحب مشحون، عزل عني مصدر الصوت، فلم أستوعب دلالتها، ولا استطعت إلى فك شفرتها سبيلا.
العبارة كانت “مرحبا بعودة زناة النضال إلى العاهرة أوطم”… فجأة؛ وفي رمشة عين تحول الشكل من دائرة إلى مثلت متوازي الأضلاع!
جعلت قلمي يتوسد ورقة عذراء، أغلقت نوافذ المذكرة، وأسدلت ستائر الأبجديات.
وبخطى بطيئة أتممت التجول بين جناحات الساحة وأنا أحتسي سمرائي المرة من حين لآخر، دون أن أكتب حرفا، فلا شيئ داخل الحرم الجامعي يستدعي إدراف حبر يتيم ولا فض بكرة أوراق متشردة.
فقط اكتفيت بالتأمل في هواجس الإستغراب وعوالم الإستلاب.
فحتى أسماء الجناحات تم نحلها وسحلها، فلم تعد تسمع جناح الجرجاني والخنساء، ولا مدرج ابن رشد أو الإمام مالك، بل تسمع الكنيسة والماخور وشارع إيڤيريست ومنتجع أيام زمان!
أما على الهوامش والبساط الأخضر (لگازون)، فإن كنت من ذوي القلوب المسحوقة، أو حبيب من الدرجة الثالثة ولا تملك جوازا عشقيا مصادق عليه من لجنة الفسق والرذيلة، ومختوما من سفارة الجفاف والعفاف، فرأفة بقلبك الكادح وأوردتك الفقيرة ألا تقترب..!
في البساط الأخضر لن ترى سوى قبلات مسروقة تنتحب، وعناق فاشيستي يلتهب، وفي أدنى الملامسات السلمية سترى توازن الرغبة بمناورات عفيفة بين أحاسيس دافئة ومشاعر عابرة.
في الهوامش لن تلمح سوى أجسادا من الكبث تنفجر، وبفعل الحرارة تنصهر، أيضا وعودا وقيما تندثر.
أعود خطوتين للوراء، أقرأ الفاتحة على روح الشهيدة “الجامعة”، أرمي القلم المغمى عليه سلفا جوف فوضى الحواس، وأخترق حدود حواشي اللامعقول.
التحقيق لم ينته بعد؛ فغريب أمر هذه القلعة الشامخة رغم هشاشة (پوليكوباتها) وتفاهة روادها.
نعم رواد يبلعون ألسنتم ويوشحون بصيرتهم وهو يشاهدون شموعا تحترق معلنة موت أعياد الميلاد.
صفقات “الحشيش” تبرم سرا معلنة قدوم مواسم التخدير.
قطط تتباهى بغزل رخيص تسعله فئران عاشبة.
كليتنا عالم فريد؛ بين الهنا والهناك أمينة، خولة، أحمد وزياد، ماريا وهالة.. تارة يعزفون على القيتارة ويلقون شعرا ويناقشون ظاهرة الهايكو، وتارة يرقصون البريگدانص أو يتجادلون حول أسس الراپ، وبين الفينة والأخرى يبحثون عن الله، يسائلون، يتضرعون، يناجون، يرفضون، يحتجون، يقتلون، ويحيون… وفي دوامة فلسفة الضياع يستدلون بأن البحث عن الذات لايزال مستمرا..!
في هاته الرقعة البئيسة ترى انعكاس مجتمع عاقر.
فتجد المؤمن والكافر، الرجعي الظلامي، والحداثي المتنور، والجاهل والأمي، والمثقف، والشاعر والمتشاعر، والكاتب والمستكثب.
تجد الرديلة والفضيلة، الطفل والمراهق، والناضج.
تجد الرخيص والثمين، نعم؛ تجد حتى الفيل والبغل والبقرة والهدهد الساجد..!
أمسكت بسمرائي بنية رشفها دفعة واحدة، فلم أجد بالفنجان سوى “التلصيقة”.
أمامي مباشرة على بعد أمتار ألمح رفيقتي التي ألقبها بزهرة الأوركيد قادمة نحوي، وكالعادة حين نلتقي ينتهي ضجيج العقل وتبتدأ طقوس وتراتيل عشقنا الناضج معلنة تناسخ جنون القلب بغطرسة الروح.
لكن؛ مادامت الصحافة مواقف، كان لا مناص من إنجاز التحقيق قبل وصول الأوركيد، حتى وإن اقتضى الأمر أن أستبدله بروبرطاج سريع أو بخبر قصير.
أخاطب نفسي؛ لا طالما آمنت يا زياد بأن الصحافة متعة.
إذن؛ استمتع بإنجاز تحقيقك عن الكلية الحسناء وإن في كلمة واحدة!
خلال ثوان من التفكير قررت وأد جميع الأوراق، باستثناء الورقة ما قبل الأخيرة، كونها الوحيدة التي لازالت بكرا عذراء، وناديت يراعي الوسيم الذي لا يرحم، وسجلت على ظهر الورقة بإسم كل من مر من هنا.. ” الجامعة امرأة حسناء سادية تستحم بدموع طلابها، وتتعطر بدماء مناضليها.. الجامعة امرأة جميلة لكنها عاهرة، ومن يرى عهرها يكره جمالها”.