تحية الفكر والإرادة المتجددة
الشاملة بريس- مملكة اطلانتس الجديدة ارض الحكمة
(المحاضرة 22 ) في ,فلسفة البناء,
رماز الأعرج
و : الفرد والديمقراطية
إن أكبر إشكالية يواجهها الإنسان في المجتمع المسيس هي علاقته بالجماعة و بالمجتمع, وهذه العلاقة هي أصلا موروثة ولا علاقة له مباشرة بها, فالإنسان يرث وضعه الطبقي كما يرث جناته الوراثية, مع فارق وحيد أن الأولى لا فكاك منها أما الثانية بالإمكان تغييرها فيما لو توفرت المقومات الضرورية لذلك, ويعتمد ذلك على نوعية الطبقة وطبيعتها, فمن السهل أن يتحول الحرفي الصغير إلى عامل ويفقد ورشته الصغيرة لصالح المصانع الكبيرة, ولكن ليس من السهل لأي حرفي أن يرتفع إلى مستوى صاحب مصنع كبير وأن يتحول إلى منافس في السوق البرجوازي الرأسمالي القديم, فما بالك بالعصر التكنوريالي المعاصر الذي سدت فيه أبواب المنافسة وأغلق سقف الملكية والاستغلال ولم يعد السوق يحتمل أي منافس صغير أو متوسط, فالصراع صراع عمالقة الطغيان والسيطرة, ولا مكان للنمل حين تتصارع الفيلة.
وتبين لنا بوضوح طبيعة الديمقراطية الاجتماعية والسياسية, واتفقنا على أصولها السياسية وأثبتنا ذلك قطعاً بالبرهان, أما الآن فنحن بصدد بحث علاقة الفرد بهذه الممارسة, وأين هي مصالحه كفرد في ذلك, وهل من متسع للفرد في الديمقراطية أصلاً, وهل الديمقراطية المعاصرة تعني بالفرد أم بالجماعة وحسب.
في الأصل لا علاقة أو حاجة للفرد بمثل هذه النظم فهو كفرد يسلك حسب ظروفه وحاجاته الاجتماعية, ويعبر عن ما يريد بكل بساطة وحرية, ولم تكن هذه الحرية يوما مطلقة, بل ضبطتها قوانين الطبيعة وظروفها وظروف الإنسان نفسه وطبيعة ونوعية حياته وبيئته, والأهم إن تلك العلاقة في الأصل كانت طبيعية وخالية من الطبقية والاكتناز والاستغلال, حيث التوازن بين الفرد والجماعة كان طبيعياً أصيلاً, وكل يحصل على نصيبه من الرعاية, بل كان الجميع يتشارك حتى في تربية الأطفال, وتبادل الخبرات العلاجية, الشعبية المحلية الخاصة بكل بيئة وثقافة وشعب.
وهناك ما زال حتى اليوم في الكثير من المناطق حول العالم شعوب تحمل مثل هذه الثقافات الأصيلة القائمة على التعاون والتعاضد بين الأفراد وليس على التنافس أو السيطرة, وفي الغالب إن المجتمع البشري كان أمومياً بالأصل ومنذ نشوئه, ولم يكن الذكور هم قادة العشيرة بل كانت المرأة هي القائد الحقيقي والمربي, أما الذكور ففي الصيد لهم قيادتهم طبعاً, وهم الأكبر سناً وأكثر خبرة بالأساس والواقع هو ما كان يفرزهم كقادة لعملية الصيد التي كانت في حينها من المصادر الأساسية للحصول على الغذاء البروتيني بالتحديد, هذا مصدر أهميتها في الأمن الغذائي.
وفي هذا السياق لم تكن الجماعة ولا الأفراد بحاجة إلى الديمقراطية فهناك نظام وعلاقات متوازنة بين الأفراد, في تكاتفهم كجماعة, وفي نفس الوقت الفرد له نفس الحقوق في كل شيء, وكلا له حاجاته الطبيعية ولا يحرم منها , وبذلك الجميع في حالة تساوي في الوضع المعيشي والطبيعي وفي العلاقة مع الطبيعة, وهكذا كانت الجماعة هي مصدر الأمن والحماية والحرية وتحقيق الذات للأفراد أيضاً, وتحقق الجماعة ذاتها من خلال الحفاظ على أفرادها وليس استعبادهم وجعلهم وسائل استغلال ومتعة لبعضهم البعض.
لقد كان الفرد في المجتمع الأمومي أكثر حرية بكثير من المجتمعات الطبقية بما فيها المجتمع المعاصر, حيث لا توازن في المجتمع الطبقي ولا يمكن تحقيق التوازن ما دام هناك طبقات اجتماعية وسيطرة من قبل فئة أو أفراد على المجتمع قائمة, فالنظام الطبقي يفرض على الأفراد الكثير من القيود بما فيها حريتهم, حيث الطبقات المستضعفة لها حدود ومساحة ضيقة في كل شيء وليس في الاقتصاد وحده, وهنا مخاطر لعبة الديمقراطية على الوعي الشعبي المعاصر حيث ينساق الغالبية وراء هذه اللعبة المقامرة, ويلعبونها لاختيار من سيقمعهم وسيطبق عليهم القوانين خلال فترة خمسة سنوات, أما اقتصاديا فلا شيء جديد, المالك ملك, والمعدم الملكية معدم بكل شيء, بل عليه أن يدفع ثمن كل شيء حتى قبره, وإلا فلا مدفن له.
وهناك الكثير من الدول (الراقية)اليوم حين يموت أحد الفقراء ولا أحد يتبرع له بثمن القبر, لا يدفن بل يحرق ويحفظ رماده في زجاجة, فمن لا مال له لا قبر له حتى بعد الموت, أين العدالة و جميع النظريات و الأديان والقيم الإنسانية والأخلاق الخ,,,
إن الإنسان المعاصر يعيش أزمة مع ذاته أولاً قبل كل شيء وخاصة على ضوء الثورة الرقمية الحديثة التي شملت كل شيء وقلبت الكثير من المعايير وأدخلت العلم في أزمة علاقات حادة لم تنته بعد بل مازلنا في مطلعها, ومن ضمن هذه الأزمة المفاهيمية تأتي الديمقراطية وعلاقة الإنسان بها و وجوداها وأثرها المباشر على حياته المادية والمعنوية والروحية و الوجدانية, فما الجدوى من الحرية في الرأي إلى جانب الظلم والتعسف الاقتصادي والقانوني و الجنسي والعرقي وغيره, ما جدوى الأخلاق و القيم والقوانين كلها إذا لم ينصف الإنسان في حياته,
ألا يمكن تحقيق العدالة إلا بعد الموت؟
إنها من أكثر الغرائب اللامنطقية والتي لا معنى لها سوى لذر الراد في العيون, فالعدل حقيقة قاطعة وليس شيء وهمي معنوي ونفسي, نعم للعدل وقعه النفسي والوجداني على الإنسان, ولكن هذا الأثر والشعور بالضرورة أن يكون نتاجاً لواقع مادي وليس غيبي أو خيالي, أو بعد الموت, لندع كل شيء وشأنه, بعد الموت ليس من شؤوننا, فلنحكم على الحاضر الذي نعيشه ونحقق العدالة والمساواة للبشر وننصفهم مادياً في الحياة, و لا ضرورة لتأجيل هذا العدل إلى ما بعد موتهم.
إن الفرد في النهاية مغيب تماما بالكامل في أي نظام ديمقراطي أو غيره, فجميع الأنظمة السياسية في النهاية لا علاقة لها بالفرد, بل هي عبارة عن أنظمة سياسية, ومهما اختلفت التسميات لا خلاف في الجوهر بحيث أي نظام سياسي لا يمكن أن يكون إلا نظام طبقي متناقض ولهذا فالديمقراطية ضرورية كلعبة سياسية لتشريع أي نظام معاصر, ولكنها ليس لصالح الفرد كفرد ولا لصالح الجماعة نفسها, بل إن الديمقراطية هي إحدى أشكال الإدارة والنظام السياسي الاجتماعي ووجودها كنظام عمل لا يعني أبداً أن هناك عدالة, قد يكون هناك نظام, ولكن لا يشترط أن تؤدي الديمقراطية إلى العدالة أو الحرية كما يتوهم البعض أو كما يحاول تسويق ذلك بعض المنظرين.
فالنظام السياسي في النهاية يعبر عن شكل للملكية وتقاسم الثروات و المنتوج الاجتماعي و الاكتناز و حق الاحتكار والاستغلال تحت اسم مزيف (الاستثمار) أنه استغلال بكل معنى الكلمة , ويحول اسمه ويتلون, حسب الحاجة والمهمة, ولم تعرف البشرية حتى الآن نظاماً سياسياً يحقق العدالة ولن تعرف ذلك يوماً إلا بزوال الأنظمة السياسية جميعها, أي زوال الطبقات, وليست الديمقراطية سوى تعبير واضح و قاطع عن صراع الطبقات وهي نظام ضابط للعلاقة بين هذه الطبقات المتناحرة على تقاسم الثروات و المنتوج الاجتماعي.
أما الأفراد فلا مكان لهم ولا أي حرية سوى من خلال طبقتهم الاجتماعية, والطبقة تبتلع الأفراد وتصهرهم في قالبها, فالسيد يكون سيد ويستمر كذلك, أما العبد فهو الآخر عبد وليس إلا, الحرية للمالك وحسب, ولا مجال للحديث عن أي حرية في النهاية خارج نطاق الملكية, المالك وحده يتمتع بالحرية المطلقة, وحجم هذه الحرية مرتبط بحجم الملكية ذاتها, وكلما كبر حجم الملكية كلما زادت مساحة الحرية المتاحة لصاحبها, ويتبعها على الأثر مساحة القرار السياسي, فأنت تقرر بمقدار ما تملك, وحسب وما دون ذلك لا مكان لأي شيء آخر هذا كله يجري بغض النظر من يكون المرء كشخص وعن ميزاته الفردية, ما دام من طبقة ما فيكون واقعه مرهوناً بطبيعة هذه الطبقة وما هو مكانها.
إن التوازن قد فقد بين الفرد والجماعة من قديم الزمان , منذ ذلك الحين الذي نشأت فيه الملكية الخاصة والنظام السياسي بكامل مفاهيمه ومفرداته, حيث انقسم المجتمع إلى أقلية تحظى بحياة رغيدة وفرص متنوعة وحرية, بينما الأغلبية أصبحت معدمة وتابعة لتلك المالكة لوسائل الإنتاج, ولا مفر للأغلبية هذه من العمل تحت جناح هذه الطبقة المسيطرة على كل شيء بحكم ملكيتها المزعومة, وبذلك نرى أن مجتمع الفرص ومجتمع الحرية للأفراد المزعوم هو مجتمع الأقلية في النهاية, وفي جميع الأحوال , الديمقراطية منها أو الدكتاتورية.
ورغم وجود أشكال متعددة من الأنظمة السياسية والاجتماعية حول العالم, منها ما يميل إلى تغليب الجماعة على الفردية, ويقابله المجتمعات الليبرالية وغيرها التي ترى أن الفرد هو الأساس وتمجد الفرد على حساب الجماعة ومصالحها, ولكن في النهاية لا مستقبل للجماعة المنتجة للأفراد, فهل سنستورد أفراداً من كوكب آخر مثلاً أم ماذا, إن الأمر في غاية الأهمية, ويشكل نقطة خلافية محتدمة وخلافية بين الأنظمة السياسية المعاصرة والقديمة, فما زال التوازن مفقوداً بين الفرد والجماعة حتى الآن وهذا يحتاج إلى بنية مجتمعية مغايرة عن كل ما عرفناه من أنظمة سياسية, وصحيح تماماً أن الكثير من القضايا النضالية تراكمية, ولكن هناك الكثير لم يعد يحتمل التراكم في التغيير كونه يشكل أساس المعضلة, ولا يمكن إحداث أي تغير ولو طفيف دون تغير الأساس الذي تقام عليه الأشياء, ونقصد هنا تحديداً (الملكية الخاصة) وهناك نماذج تاريخية اجتماعية تحاول معالجة هذا الأمر ولكنها لم تضع أي حد أو سقف للملكية, وسنأتي على ذلك بالتفصيل في مكانه.
النتيجة إن الأنظمة الاجتماعية والسياسية حتى الآن لم تستطع بناء نظام اجتماعي متوازن, ولا أعتقد أن أيًاً منها قادر على القيام بذلك لوحده, أو مع الآخرين, فالموروث الفكري البشري يجب معالجته واستخلاص المفيد منه وما ينطبق مع الحقائق القاطعة, مع الحفاظ على القديم بكامله كموروث فكري قديم, وتجربة, وخبرات سابقة, ولكن ليس كممارسة فعلية لكل ما ورد في هذا المورث الإنساني, أي نسيج فكر إنساني كوني جديد يأخذ بعين الاعتبار الموروث الإنساني بكامله بشتى ألوانه وأطيافه الثقافية الحضارية والفكرية, و ترك حرية المعتقد للجميع, بعد سن الرشد, و وقف طباعة البشر كما تطبع العملة الورقية, وهذا من أبشع أشكال الاستعباد المقنع المعاصر,(صناعة العبيد).
ننصح القارئ العزيز بالعودة إلى كتاب العبودية المقنعة والإطلاع على عنوان صناعة العبيد.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إن الديمقراطية لا تعالج أي خلاف بين شخصين على الإطلاق, ولا علاقة لها بذلك, وهذا دليل قاطع على أنها جماعية بالأساس ولا علاقة لها بالأفراد سوى لإخضاعهم, وليس لإعطائهم مزيد من الحرية والتعبير كما يحاول البعض تسويق ذلك, فما جدوى كل الأقاويل والثرثرة, إن قلت أنا ما أشاء, وفعلت أنت ما تشاء في النهاية, مادياً لا علاقة بحرية الرأي سوى بالقول, أما الفعل فهذا شأن الغالب ولا علاقة للمغلوب به, وما على المغلوب إلا الالتزام في النهاية وإلا قمع وعوقب على تجاوزاته.
هذه حقيقة النظام الديمقراطي أي كان نوعه في النهاية, وهذه حقيقة علاقة الفرد بالديمقراطية, أنها علاقة الصناعة المناسبة, والسير في طريق تشريع النظام السياسي, وتوهم الإنسان أنه يمارس حريته كفرد, في الوقت الذي هو أصلاً كفرد لا وجود له في هذا النظام سوى كوسيلة تشريع سياسية تستخدم في النهاية ضده أن لم يكن من الطبقات المالكة.