حرية صحافة أم صحافة حرة..!
الشاملة بريس- د.زايد الرفاعي
يعتقد الكثيرون أن الكتابة الصحفية عملية سهلة، لا تتطلب سوى يراع ومذكرة ومصادر جاهزة،بيد أنها العكس تماما، إنها فعل مقلق، إن لم نقل مزعجا ممتعا، فالكتابة بشكل عام ثاني أصعب فن بعد مصارعة التماسيح -على حد تعبير الصحفي والأديب هيمونغواي- وبتعبيرنا هي شبيهة بتسجيل هدف من ركنية بالقدم اليمنى للاعب مصاب في ركبته اليسرى!
الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا ويثقل كاهل الصحفي ويعلب قلمه ويسيج فكره، عندما يصير مقيدا بسياسة تحريرية معينة، وملزما بميثاق وقانون صحافة ونشر قد لا ينصفه إلا لماما، فمن البديهي أن أي صحفي ينشد مساحة من الحرية للتعبير عن ما حدث وما يحدث، لكن هامش الحرية في عالم صاحبة الجلالة تغدو كونها أضغاث أوهام، فقدر الصحافة ألا تكون حرة مهما بدت عكس ذلك، هكذا شاءت القاعدة منذ القدم، والاستثناء لا يبرر القاعدة، على عكس الأدب الذي يتمتع بتحرر مطلق وبقدر وافر من الحرية، لذلك نلفي بين نصوصه تزييفا للحقائق وخوضا في الأعراض، وتشويها للأحداث، وتلاعبا بالمشاعر وتشهيرا هنا وهناك، ولعل هذا يعزى إلى طبيعة الأدب كونها طبيعة مجازية، لذا فإن مشروعية الكذب متاحة له، لدرجة قيل: أن أحلى الأدب أكذبه.
بمعنى أن الأدب الذي يجتذب الناسَ بقوة، ويستهوي القراء أكثر، هو ما كان أكثر كذبا.
وكثيرا من الوظائف والخصائص الأدبية -النبيلة والقذرة معا- آلت اليوم إلى الصحافة والصحافيين.
فالصحافة عند أهلها الشرفاء عمل إصلاحي ثقافي واجتماعي جليل، ولكنها عند البعض مجرد استرزاق وتكسب وابتزاز، وهنا تأتي حاجتهم إلى صناعة الكذب والتحريف والتهويل والاستباق والاختلاق. وهنا يصدق أن يقال: “أحلى الأخبار الصحفية أكذبها وأغربها”.
ربما لذلك يتعلم الصحفيون منذ البداية أن الخبر الناجح ليس هو أن تقول: كلبا عض رجلا، وإنما هو أن تقول: رجلا عض كلبا.
فليس مهما أن الناس سيصدقون الخبر الأول دون الثاني، ولكن المهم هو أن الخبر الثاني سيجتذبهم أكثر، وسيجدون فيه حلاوة ولذة أكبر.
ولتقريب المعنى؛ مثل هذا تماما يحصل حتى في المأكولات والمشروبات، فرغم أن جميع الناس في الأصل يأكلون ويشربون لأجل غذائهم وصحة أبدانهم، فإن أكثر الناس إنما ينجذبون إلى بعض الأطعمة والأشربة، بل يدمنون عليها، بناء على ما فيها من توابل وملونات ومواد إضافية، هي في الغالب تضر ولا تنفع، وقد تكون أساسا لإخفاء ما في الطعام والشراب من رداءة وفساد.
يعني أن لجوء الصحفي إلى الإختلاق، والتزييف والتمويه، والتهاتف على التفاهة والفضيحة إنما مآله إخفاء ما في مواده الصحفية من ركاكة ورداءة، ومنطقيا ومهنيا حرية الصحافة يلزمها أن تكون بينها وبين هؤلاء هوامش ومسافات، لا أن يتمتعوا بمسافة أو هامش منها، وإلا أضحت أخلاقيات المهنة في فوضى، وأصبح الرأي العام في خطر.
لذلك؛ إنه لمن دواعي الإستغراب أمر كثير من الصحافيين- يدعون المهنية- تجدهم يتهافتون على اقتناص التفاهة، في محاولة بائسة منهم لتنوير الرأي العام، و لا يصلح أو يستقيم ذلك أبدا، لأن المعادلة مقلوبة، كالمثلث اليتيم في حضرتهم، لم يجد لغة تحمي ظهره وثقافة ترقى به وتسمو، ما يجهله هؤلاء هو علاقة الصحفي بالواقع والمعرفة، فصحفي لا يقرأ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتج خطابا مركزا، مقنعا، مؤثرا.
فلا انفصال للصحفي عن الميادين الأخرى، الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية والفلسفية واللغوية ، ولا وجود لصحفي لا يستطيع تحرير مقال متماسك الأركان، ولا حديث عن صحفي يحب الاختصار والاقتضاب في غير مكانهما.
بديهيا؛ لم يعد كافيا أن يكتب الصحفي بحرفية وسلاسة وأن يكون متابعا جيدا لآخر التطورات، بل الكاتب والمحور الجيد المتمكن هو من يكون كثير المطالعة في جميع الميادين، تلكم الوسيلة الوحيدة التي تجعل مواده الصحفية منقحة أوتوماتيكيا، سليمة لغوية، أنيقة تركيبيا ودلاليا.
فإذا عدنا للزمن الجميل، سنجد جهابذة مهنة متعة المتاعب أمثال: طه حسين والعبقري عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي وقاسم أمين، متربعين على عرش الصحافة آن ذاك، بكتاباتهم النقدية الأدبية الفلسفية والعلمية، يطرحون قضايا للنقاش، يدافعون عن أفكارهم برقي نقدي بليغ، ساهموا بشكل كبير في بلورة الفكر والثقافة، لأنهم ترفعوا عن ثقافة “البوز” ولم يلتصقوا بتوافه الأمور وعليلها، وعندما يحاججون، يقابلون الفكرة بالدليل والبرهان، ويقارعون الفكر بالفكر.
صفوة القول؛ إن الصحافة بين الأمس واليوم شهدت ميوعة دنيئة على صعيد مستويات عدة، أهمها: أدبيات وأخلاقيات المهنة، احترافية البحث والتحري وتقديم المعلومة، سلامة سلاسة اللغة، والاستثمار الإيجابي لحرية الصحافة لأجل بناء وخلق صحافة حرة.
زايد الرفاعي، باحث في الخطاب الإعلامي