من يصنع التاريخ ؟

الشاملة بريس- اطلانتس الجديدة ارض الحكمة
رماز الأعرج , (المحاضرة 25 ) الجزء الأول
(التنمية المستدامة , جذور إشكاليات وحلول)

من يصنع التاريخ ؟

ز : بطلان نظريات الحروب جميعها وفشلها
طال الجدل في تاريخ الفلسفة حول هذا الأمر الشائك والمعقد منذ نشؤ البنية السياسية والنظام الإمبراطوري السومري القديم والجيوش , وما زال الجدل عالقا حتى اليوم ويعلوا غباره , وهذا له علاقة بالايدولوجيا العالمية الحديثة والمعاصرة ومسار تطورها وتصاعد مصالح القوى الكبرى المسيطرة على اقتصاد العالم .

والحرب كظاهرة اجتماعية مستدامة منذ نشؤ الإمبراطوريات الأولى القديمة بحسب التاريخ المكتوب , ومنذ بداية هذا التاريخ الموروث وبحسب علم الآثار هذا التاريخ مشحون بالحروب , بل لو دققنا به سنجده عبارة عن قصص حربية ومعارك وصراعات متواصلة تخللها فترات استقرار نسبي , ولكن ليس توقف كلي للحروب , وفي غالبية فترات السلم كان الإعداد للحرب يشكل الهاجس الأساسي للنظام السياسي , وما أن تنموا مصالح نظام سياسي ما حتى يدع العدة ليغزو المناطق المحيطة ويضمها لسيطرته ونفوذه ويخضعها .

لذلك كثر الجدل الفلسفي حول الحروب وأسبابها ومبرراتها , ودورها في صناعة التاريخ والبناء والحضارات , وأنقسم الفلاسفة منذ البداية حول هذا الأمر , فريقا منهم كان مرتزق وشبه تابع للنظام ومؤيد له بلا مواربة , ومن بينهم مؤرخين أيضا , وقلما تجد فيلسوف محايد في رؤيته لموضوع الحروب عبر تاريخ الفلسفة , وغالبيتهم أدلوا دلوهم في هذا الميدان وقدم رؤيته , وبخصوص المؤرخين فغالبتهم كانوا من أتباع السلاطين والحكام , وجميعنا يعرف أن المنتصر هو من يكتب التاريخ , والنخب التابعة لهذا المنتصر من مفكرين مثقفين ومؤرخين وغيرهم من يكتبوا التاريخ في جميع العصور , وقلما وصلتنا قطع أثرية معارضة لنظام الحكم , وهي نادرة جدا .

عصر النهضة الأوروبي
ومع تبلور معالم ما سمي بعصر النهضة الأوروبي ظهرت الكثير من النظريات الفلسفية والمنظرين الذين انقسموا أيضا بين مدافع عن الحروب ومعارض لها , ومن الطبيعي أن كل معارض للحروب بشكل عام أن يكون معارض لنظام السلطة والحكمة , وأنظمة الحكم القديمة والحديثة جميعها تقوم على مبدأ القوة والسيطرة بالأساس , ولجاهزية الدائمة للردع الفوري لأي خروج عن القوانين , أو تعرض مصالح البلاد مثلا للخطر أو الاعتداء ما .

ومن ابرز رواد مدرسة الدفاع عن الحروب في أوروبا في حينها كان
توماس روبرت مالتوس (بالإنجليزية: Thomas Malthus)‏ (14 فبراير 1766 – 23 ديسمبر 1834)
وهو صاحب نظريات اقتصادية ودراسات اجتماعية , من أبرزها النمو السكاني للبشر , والنظرية الاقتصادية السكانية , ورغم بعض الدراسات الصحيحة التي قدمها لكنه يضع الرؤية العلمية في سياق فلسفي غير منطقي , ويعود إلى رؤية تشاؤمية محضة تم استغلالها لاحقا لتبرير الحروب والتنظير لمنافعها للبشرية , ورؤيته هذه ليس كرؤية شوبنهاور الفلسفية التشاؤمية التي ترى أن الحياة شر لا ينتهي إلا بالموت , وأن الموت هو الطريق الوحيد للخلاص من عذابات الحياة .

اختلف مالتوس في النهاية ولا يرى الحروب بهذا التشاؤم , ولكنه يرى أن عدم القدرة على إنتاج الغذاء الكافي للمجتمع هو ما يسبب الحروب , وان الحروب هي من النعم التي تخفف من عدد السكان وتشكل هي والأمراض والأوبئة نوع من التوازن الطبيعي والطبيعة لا تحتمل الزيادة في عدد السكان بشكل يتجاوز إمكانياتها , هذا هو جوهر رؤية مالتوس الاقتصادية الاجتماعية , ورؤيته لموضوع الحروب , وتبعه الكثيرين لاحقا , وظهرت نظرية الداروينية وغيرها من النظريات التي نظّرة لأهمية الحروب لتحقيق التوازن السكاني .

وفي الطرف الآخر ظهر الكثير من الفلاسفة المنظرين الذين عارضو هذه الرؤية , وكان من أبرزهم الفيلسوف الاقتصادي
آدم سميث (بالإنجليزية: Adam Smith)‏ (5 يونيو 1723 – 17 يوليو 1790) فيلسوف أخلاقي وعالم اقتصاد اسكتلندي

ويعتبر سميث من مؤسسين الاقتصاد العالمي الحديث وتأثيره ما زال قائم في الاقتصاد المعاصر , وجاءت رؤيته لتشكل ردا على رؤية المنظرين للحروب , وكذلك الأمر الفيلسوف الألماني فيور باخ التي كانت رؤيته للحروب رؤية مشابهة إلى حد ما , وعلى إثرهما ظهر الفيلسوف الانجليزي الاقتصادي الكبير كارل ماركس , وفي نفس الفترة ظهر الفيلسوف الاجتماعي والسياسي الألماني انجلز وأسسا معا النظرية الأيدلوجية السياسية التي سمية لاحقا بالماركسية , ورغم العنف الثوري الذي يطرحه ماركس و انجلز في مؤلفاتهما , إلا أنهما عارضا الحروب بشدة , وكثر تنظيرهما حول الحروب وطبيعتها وضرورة القضاء عليها في النهاية كمحصلة نهائية لمجتمعهما الفاضل الذي تقدمه نظريتهما كحل لمشكلة البشرية الاقتصادية .

وفي العصر الراهن , نجد أن غالبية الثورات والحركات الاجتماعية الأصيلة والمناضلة الحقيقية , تناضل من أجل السلم العالمي ونبذ الحروب ووقفها , والقضاء على كافة أسبابها , ورغم أن الكثير من هذه الحركات الثورية الأصيلة تتبنى الكفاح المسلح في الثورة من اجل التغير , ولكنها في النهاية تقر بكل وضوح أن هذه الوسيلة الوحيدة لمواجهة النظام المسيطر والرافض لأي حلول منطقية متوازنة , وخاصة فيما يخص قضايا الاستعمار ووقوع الشعوب تحت احتلال غاشم ينهب خيراتها ومواردها ويتركها خراب , كما نشاهد اليوم في دول أفريقيا وغيرها من دول العالم .

أيديولوجيا الحرب :
بما أن الحرب اقتصادية الجذور لا بد من وجود إيديولوجيا ما ورائها وتبررها وهذه الأخيرة مبنية على فلسفة ما ورواية ورؤية معينة , وهكذا تبرر الحرب ويصبح لها مبرر أخلاقي وقانوني وغيره من المبررات , وتصاغ الحرب وتصور بحسب المصالح المرادة منها والأهداف المرصودة من ورائها , وهذا ما جعل الرؤية الفلسفية منقسمة عبر التاريخ حول موضوع الحروب بالذات كظاهرة اجتماعية .

وتصور بعض الحروب وتسوق أحيانا للشعوب على أنها لصالحها , ويخوض الشعب الحرب ويقدم التضحيات الكبرى دون معرفة المصالح الحقيقية من وراء هذه الحرب , بعد أن تم تحضير الأرضية الدعوية والإعلامية لذلك , وتجيش الرأي العام استعداد للمعركة القادمة , ولا بد أن يسبق الحرب عادتا حملة إعلامية تتصاعد حتى الذروة ونشوب الحرب , وتكون جميع الأطراف عادتا شبة متوقعة الحرب ولكن التوقيت له ظروفه الخاصة به تحدده عوامل كثير من ضمنها اكتمال الاستعداد للحرب التي جهز لها من كل النواحي بما فيها التعبئة الجماهيرية للحرب .

ولكي ندرك طبيعة الحروب علينا تتبع جذورها العميقة منذ القدم ومسارها , وما هو المشترك بينها لندرك عمق وفهم التاريخ الحقيقي وهناك دوما وجه آخر للتاريخ , دعنا نأخذ صورة عن وجهين أساسيين للحرب عبر مرحلة التاريخ البشري المكتوب , الوجه الأول ما كتب في التاريخ وكيف صورة لنا الحروب في الموروث الإنساني , والوجه الثاني هو الحقيقة والوجه الآخر للحروب , والأساس المادي الذي تركته الحرب ونتائجها .

الوجه الأول :
بطولات وعظمة وبناء حضارات كبيرة يتم تصويرها أنها عظيمة وبناء حضارات وتقدم وإمبراطوريات وصل سلطانها حدود السماء , وفي الغالب كان الأباطرة القدماء كانوا كهنة في المعبد أيضا , ورؤساء لكهنة المعبد وتقاسموا السلطة مع المعبد ورجال الدين , وكان القصر والمعبد شركاء في الذبيحة وتقاسم الملكية والثروات والسيطرة عليها , وفي النظام القديم هناك مخالفتين كبيرتين لا يتساهل معها القانون والعرف , وهي الاعتداء على أملاك القصر أو المعبد .

ونلاحظ أن الملوك الذين قادوا حروب كبيرة وتوحيدية للمدن السومرية أحيط بهم هالة من القداسة والعظمة واللاهية والأسطورة , ومثال على ذلك نورد بعض الشخصيات الهامة في التاريخ السومري ونلقي الضوء على جذورها وأسباب هذه الأهمية التاريخية لها في عصرها .

1 : جلجامش : هو شخصية أسطورية سومرية يقدر الباحثين في علم الآثار انه حكم ما بين 2500 إلى 2800 ق م , وهو من سلالة أور الثالثة , واله جلجامش بعد موته , ولا يوجد الكثير حوله سوى تلك القصائد الشهيرة المعروفة بملحمة جلجامش , وبعض القصص عن حروب خاضها , و هو بطل (ملحمة جلجامش الشهيرة) .

2 : أور نمو : هو مؤسس أسرة أور الثالثة (عصر الانبعاث السومري)، وقد استمر حكم هذا الملك سبعة عشر عاماً من الفترة ما بين (2112 إلى 2095 ق.م وهو صاحب قوانين أور نمو الشهيرة , هو واضع قوانين (أور نمو) الشهيرة .
3 : الملك لبت عشتار هو خامس ملك لعائلة إيسن وسلالتها الحاكمة (1924 ,,1934) ق م , و اصدر هذا القانون بالغة السومرية هو واضع قوانين (لبت عشتار) الشهيرة
4 : حمورابي هو ملك كلداني توفي عام 1750 ق م , وحكم بابل وراثة عن أبيه الذي تنازل له بالحكم , وحكم بابل من 1750 لغاية 1792 ق م , خاض حروب التوحيد على الكثير من الممالك السومرية وهزمها وضمها بالقوة في إمبراطورية واحدة وهو صاحب (شريعة حمورابي) الشهيرة .

هذا كان في الحضارات القديمة مثل مصر وبابل , وفي الحضارات ألاحقة مثل اليونان القديم تطور الأمر ليصبح الإمبراطور هو ذاته ألاه ولاسكندر المقدوني مثال على ذلك , وفيما بعد الحضارة الرومانية أيضا أصبح الإمبراطور ألاه , وكذلك عند الفراعنة كان الفرعون ألاه مصر ومنقضها , وبناء الأهرامات حسب البحوث جاء على خلفية معتقد مشابه .

وجميع هذه النماذج من الشخصيات مرسخة في التاريخ وفي الثقافة الإنسانية على أنها شخصيات عظيمة وصنعة التاريخ الإنساني وقامة ببناء حضارات عظيمة لا مثيل لها , وكلا اشبع مديحا وأسطورة في عصره وزمانه , بغض النظر عن الفوارق التاريخية والحضارية , نجد أن هناك الكثير من المشترك بينها جميعها , وهو التمجيد والعظمة وصناعة التاريخ وشق طريق عظيم للبشرية في عصره , وهذا ليس مبالغة بل علم الآثار هو من يخبرنا بذلك.
رماز
ارض الحكمة

شاهد أيضاً

تعزية ومواساة مرفوعة للملك محمد السادس في وفاة صاحبة السمو الملكي الأميرة لالة لطيفة

تعزية ومواساة مرفوعة للملك محمد السادس في وفاة صاحبة السمو الملكي الأميرة لالة لطيفة الشاملة …

لا حدود لثقافة الإعتراف

لا حدود لثقافة الإعتراف: مؤسسة محمد السادس من أجل السلام والتسامح مستمرة في نشر ثقافة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *