المنتخب المغربي ينهي حقبة كروية ويعلن ميلاد نموذج عالمي من أرض قطر
الشاملة بريس- إعداد: سامي دقاقي
هل كان أحد يعتقد أننا سنعيش التظاهرة الكروية الأولى و الأعلى مستوى في العالم على هذا النحو من الجنون والشغف؟ هل توقع أحد أن يزحف المغرب كرويا بهذا الشكل، ويكسّر شوكة أعتى المنتخبات وأقواها؟ فيجعل كرواتيا تدور حول نفسها كديك مذبوح باحثة عن منفذ لهزّ شباك بونو، فلا تلوي على شيء، ويجمّد حركة “البلاجكة” فيربك حساباتهم قبل أن يغادروا من الدور الأول في نهاية حزينة، ثم يشعل حرارة الميدان أمام صقيع كندا فيذوّب ذلك الاندفاع الهائج للاعبي بلد البحيرات.
من كان يتوقع أيضا أن منتخب الأسود سيروّض ثيران إسبانيا في “كوريدا” كروية محمومة؟ لينهي “الماتادور” المغربي (الركراكي) صفحة حلم لاروخا، ويجعل الشعب الإسباني ينام باكرا، بعدما تقاتل لاعبوه لأجل المجد الأوروبي، فدحرهم المغاربة في “موقعة” كروية من أجل النخوة الأمازيغية والعربية والإفريقية والإسلامية، حيث سجل التاريخ موقعة “ستاد المدينة التعليمية” العظيمة إلى جانب مثيلاتها في التاريخ السياسي للمغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية ( أنوال، الزلاقة، وادي المخازن). لم يكن البرتغال أكثر حظا من جيرانهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث طعن المغاربة أحلامهم في مقتل، وأنهوا مسيرة “دونهم” (رونالدو) على إيقاع الحسرة مع دمعات محرورات، وقبلة مطبوعة (في مشهد طريف) على رأس (بيبي) تحمل رسالة واضحة مفادها أن شباك الأسد بونو هي “عرين” ليس من السهل الاقتراب منه فبالاحرى هزّه، وأن التاريخ لا يعيد نفسه برتغاليا (2018) ويعيده مغربيا (1986).
بهكذا زحف كروي، أعلن المنتخب المغربي رسميا دق المسمار الأخير في نعش النموذج الأوروبي، وإنهاء حقبة “التيكي تاكا” التي ظهرت مع عرابها (غوارديولا)، بما أسسته من نهج تكتيكي يعتمد الاستحواذ طول الوقت على الكرة، في مقابل سلبية الخصم وإرباك دفاعاته الميدانية والنفسية على السواء.
من جهة أخرى، كشف الأداء لقوي لمنتخبنا المغربي عن ميلاد نموذج كروي جديد بمورثات مغربية خالصة (ينصهر فيها الأمازيغي والعربي والإفريقي)، قلّص الفجوة الفنية بين كرة شمال إفريقيا و الكرة الأوروبية التي كانت تبدو إلى حدود مونديال روسيا مهيمنة بشكل فادح.
ثمة أمر آخر، سنؤمن به على سبيل القلب وليس العقل، ونجعل منه مقابلا لفلسفة “النية” التي أسسها الناخب الوطني وليد الركراكي، وهو أن الإنجاز التاريخي القوي للأسود ، مرتبط بأرض قطر على نحو وثيق ووجداني، ذلك أن هذه البلاد لطالما كانت فأل خير على الرياضيين القادمين من المغرب و الموعودين بالتميز فوق أراضيها، فأعظم ألقاب لاعب التنس المغربي الأسطورة “يونس العيناوي” حققها في دوري قطر المفتوح للتنس، و بفضل فوزه بالبطولة هناك تصدّر التصنيف العالمي لأسبوعين، كرقم واحد أمام “فيدرير” و “أغاسي” و “نادال”، و أن فريق “الرجاء البيضاوي” توج في قطر بكأس السوبر، و أن حلم العداء المغربي “البقالي” تحقق هناك بتحصيله لقب الدوري الماسي في الدوحة حيث حطّم التوقيت العالمي.
فلا غرابة إذن، أن يكون مولد نسخة جديدة ل (منتخب مغربي) مغاير وقوي عالميا قد انطلق من مونديال قطر مبشرا بمدرسة كروية جديدة سواء في اللعب أو التدريب أو الانضباط والأخلاق، بل وحتى (وهذا هو المهم) في التشجيع والدعم الجماهيريين.
بعين ثالثة ، يبدو أن انتصارات المغرب ينبغي أن تقرأ قراءة سيكولوجية من زاوية علم النفس الإنساني (الإيجابي) حيث الاشتغال على ما يسمى في هذا الحقل ب potentiel latent، ولعله المنحى الذي سار فيه “الركراكي” مع فريقه، حين تفطّن لدور الثقة في النفس وتعزيزها، وأيضا الاشتغال على الذكاء الوجداني بكل أبعاده، من وعي ذاتي وضبط للذّات وتعاطف وحافزية.
لم تعد المسألة اليوم مجرد منافسة رياضية كروية فقط، بقدر ما صارت تأكيدا للانتماء، وهوية ممتدة من الأنا(الفرد المغربي) والشعور الفردي إلى الجمع(الشعب المغربي) والشعور الجمعي المشترك، بل امتد إلى الشعور الجمعي خارج رقعة الوطن (الإفريقي والعربي) بكل أبعاد هذا الانتماء، الروحية والقيمية والإنسانية.
نحن في هذه الملحمة الكروية كما لو كنا نؤكد هذا الشعور بالانتماء في سلم الحاجات لصاحبه ابراهام ماسلو (الحاجات الاجتماعية تحديدا)، عبر استنبات وإشاعة ثقافة الفرح والابتهاج من الميادين الكروية إلى المنازل ومقرات العمل والعوالم الافتراضية.
يبدو أننا اليوم نجيب بشكل مباشر، وبدون لغة خشب ولا مغالاة، عن السؤال الذي سبق وطرحه المختصون النفسيون وأساتذة علم النفس والباحثون في المجال عبر مداخلاتهم منذ سنوات : ما الحاجة إلى علم النفس اليوم ؟ وكانت إجاباتهم علمية دقيقة من دون أدنى شك.
الجواب جاءنا أيضا بشكل عملي وميداني من قطر عبر ذكاء وليد الركراكي وأقدام أبنائه.