فلسفة التواصل بين الهامش والمركز
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- إنجاز: د الغزيوي أبو علي باحث
تقديم:
تعد قضية المهمش قضية جوهرية في دراسة التراث الإنساني، فلا توجد فلسفة دون مركز وهامش، لذلك تعددت القراءات وتنوعت المذاهب والاتجاهات بتعدد المراكز النقدية والتفسيرية والتأويلية، وأيضا بؤر التحليل المعرفي والأنتربولوجي والسياسي والثقافي والوجودي، وهذا المقال هو إطلالة متميزة ومثيرة للجدل من طرف الباحثين، لأنه يطرح قضية جوهرية في مجتمع استهلاكي لا يعير الاهتمام إلا للمركز، بينما الهامش يبقى مظمرا ومقصيا من طرف الأحزاب وأصحاب الامتيازات الكبرى، لذا استندت على أراء وأفكار هابير ماس في نظرية التواصل العقلاني المحيحي وجماعة فرانكفورت وبعض علماء الاجتماع لتوضيح المعنى الجوهري لهذا المثقف المهمش، لأننا نعيش في عالم تحكمه الليبرالية المتوحشة، أصبح فيها الإنسان مستغلا ومستلبا، وأنه عبارة عن شيء يباع ويشترى تبعا لقوانين السوق الاستهلاكي، وفي ظل هذا المجتمع الاستهلاكي ولدت حركات هامشية لا مرئية حملت في متخيلها الأفكار المغايرة ودعت إلى تبني نظريات وجودية وماركسية وثقافية جديدة فيها التحدي، من هذا التحدي والتجاوز خرج المثقف العضوي الذي أصبح المثار في هذا المجتمع، واتخذ فكرا مستقلا كرمز لقوة تضاهي قوة السلطة الحاكمة، إذن فهو الديناميت الذي يستطيع أن يؤسس الحقول للهامش، وأن يحدد لنا النظم الجديدة كرؤية لحياة واقعية ولترسيخ مكانة المهمش في إطار التواصل.
يحمل هابرماس بنقد عقل التنوير وقد تجلى هذا النقد بصورة واضحة في فلسفة أدورنو وهوركهيمر حيث عبرا عن الانتكاسة التي صاحب العقل التنويري، وهذه الانتكاسة ولدت بعد ما تم توظيفه كأداة لخدمة الإنتاج الصناعي، الشيء الذي جعل الذات الإنسانية مغتربة وتحول العقل التنويري إلى العقل الأداتي، لذا أظهر لنا أدورنو هذا التناقض الموجود بين النظرية النقدية معتبرا أن التنوير شيء واحد في الصدق وفي الحقيقة، لأن النظرية النقدية تفتقر إلى المعيار النقدي الجديد دون الارتباط بالعقل الأداتي، وهابرماس أعاد النظر في الحقيقة والخطأ العلمي كما حدد باشلار وأيضا الديمقراطية عارضا براعته الفكرية التي تتأسس عن قوة إبداعية أكثر ما تنم عن قوة تلفيقية، لذا أبدع النظرية التواصلية التي تجمع بين فلسفة والهيرمينوطيقا، وهذا الفعل البنائي الإجرائي جعله مدافعا عن العقلانية والعقل التي وجدا فيها ماهية لنظرية اجتماعية جديدة، وهذا التحرير هو تأسيس الفعل التواصل الإنساني لأن هابرماس اهتم بعلم الاجتماع شأنه شأن العلماء الآخرين، وقد أخذ عن تالكوت النزعة الوظيفية والنزعة العقلانية كل هذا من أجل تأسيس نظرية ماركسية تراعي المجتمع الحديث فهابيرماس أعاد النظر كما قلت المعايير الجمالية والأخلاقية والوضعية محاولا حل أزمة العلوم الاجتماعية، كل هذا من أجل عقلنة المجتمع مع دمج الفن والأخلاق والعلم، فإعادة الاعتبار لهذه العقل النظري من ناحية أخلاقية وجمالية وعلمية هو وذلك في سياق النشاط العقلي ليس من خلفية موضوعية أداتية، فالعقلانية بكل مكوناتها ووظائفها دفع بهابيرماس إلى بناء نشاط تواصلي معتمدا على فلسفة اللغة كما قلت كما عند فيجنشتاين وسيرل وغيرهم من اللغويين، فهابيرماس أكد على أهمية العقل كمنطلق أساسي في بناء المجتمع الإنساني، لذا أراد أن يؤكد لنا أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، فهي التي خلصت إنسانية من الفكر الماضوي والرمزي من أجل تفجير طاقة إبداعية متنورة التي تعمل على التواصل بين المجتمعات الإنسانية، وهذه النقلة النوعية من فعل أداتي إلى فعل عقلاني وضعي ومعرفي ولغوي هو الذي يجعل هذا الكائن لا يكون أداة في يد الآلة، بل هو سيد نفسه وحر في اتخاذ قراراته، ومسؤول عن حريته وفق قواعد اجتماعية التي تحكم العملية التواصلية بين الجميع إذن فالذات العارفة قادرة على الانخراط في الوقائع وتتميز بالفاعلية التواصلية، إن هابيرماس بهدف إلى إعادة للمجتمع عقلانيته النقدية لكي لا يسقط في مستنقع الاستبداد العلمي والتقني والإقصاء، إذن نطرح السؤال التالي كيف يتحقق فعل التواصل؟ وكيف يتحقق التوازن الذاتوي؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة جعلت التواصل يأخذ جذريته من خلال التفلسف العقلاني التواصلي، لا أن يكون فعل التواصلي عبارة عن برغماتية، بل ممارسة يومية قادرة على الكلام والتواصل اللغوي (النظري والعملي)، وهذا يقربنا إلى براديكم الكانطي الذي أدمجه هابير ماس في مشروعه وخاصة في كتابه “المعرفة والمصلحة”، لذا صنف المعرفة العلمية إلى ثلاثة أقطاب، قطب أداتي المرتبط (بالتجريبية – التحليلية)، وقطب تاريخي تأويلي المرتبط بالنصوص، وقطب مرتبط بالعلوم والفلسفات الإبستمولوجية التي تهدف إلى تحرير هذا الكائن الحي من الضياع والغربة والإقصاء والمحو، وهذا التقسيم لم يأتي عبثا، بل هي نسق يوحد بين الفكر والواقع ويرفض كل تجربة لا تستند على مبادئ العقلانية الاجتماعية، لأن الإنسان كما نعلم يتواصل مع ذاته ومع العالم الخارجي بلغة اجتماعية كما يرى دوسوبير في كتابه (دروس في اللسانيات العامة) ص34، وهذا التواصل الاجتماعي لا ينبغي أن يكون فيه الإقصاء والهيمنة والخداع، بل أن يكون حوار تواصليا مبنيا على الصدق واحترام الذات الأخرى كما يرى سارتر، إنه واقعنا اليوم لا يتسم بالعقلانية الموضوعية ولا يسوده التواصل العقلاني المبني على الديمقراطية، بل يسوده اللانظام التواصلي، لأن السلطة ظلت هي السيدة التسيير، وأن الأحزاب السياسية لم تعد تفي بغرضها المنوط بها، بل استسلمت وانصاعت لها، الشيء الذي ولد لنا عدة تيارات ايديولوجية التي تواجه هذه الطاغوت المهيمن ومن بين هذه التيارات – التيار اليساري الذي ناد بالفكر والتواصل، جاعلا القاعدة هي الأسمى والأجذر في كل العمليات التواصلية، لكن هذا التيار تعرض لعدة ضغوطات من طرف السلطة الحاكمة، رغم أن الفعل التواصلي يقتضي الحوار الديمقراطي، بوصفه توسيط الذي يحقق نوعا من التواصل والتفاهم، ومن خلاله يستطيع المتحاوران التفاعل قصد زرع الصدق وحصاد الاختلاف، ولكن لم يحدث هذا كله، فبقي المثقف الملتزم محصورا في زنزانته دون النزول إلى القاعدة، ومن بين هؤلاء المثقفين عبد اللطيف اللعبي صاحب مجلة (سوفل – souffle) ومحمد عزيزي الحبابي، ومحمد عبد الجابري، ومحمد بنيس، وأحمد المجاطي، وغيرهم، فهذا التفكير التنويري الذي حمله المثقف هو النموذج الأساسي الذي يهدف إلى صياغة هذا المشروع التنويري الجديد من خلال ما أسماه هابير ماس بالبراجماطيقا (التداول اللغوي)، لذا عمل اليسار – منظمة العمل الديمقراطي والاتحاد الاشتراكي، وحزب علي ياعته، وتيار الاشتراكي الموحد وغيرها من التيارات إلى تأسيس نظرية نقدية للمجتمع الحديث، لتكون قاعدة جماهيرية تهدف إلى خلق تواصل استراتيجي الذي يتضمن الفعل العقلاني النقدي للمرحلة، لأن من الضروري التحرر من فلسفة الإكراه والإقصاء لبناء علاقة بين فعل التواصل وبين الذات المبدعة، فالهدف من كل ما قلته هو إحكام البناء التصور النقدي للبناءات الاجتماعية والأخلاقية التي يتم فيها التواصل، إن المثقف اليوم ينبغي عليه أن ينخرط في الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي لبناء نموذج استراتيجي لكي يفسر لنا إلى أين نسير الآن، وكيف ننجو من سجن العولمة؟ أسئلة كثيرة تنثال علي وأن أكتب هذا المقال لأن التواصل لا يكون بريئا، بل ملطخا بوحل من الأسئلة الغائية والمعيارية والمضمونية، الشيء الذي يجعل المثقف السياسي والثقافي أن يبدع قناة نموذجية توجه الفعل الدرامي والتواصلي لتحقيق الدقة المعرفية والصدق التنظيمي والحقيقة الموضوعية لكي يعرفها المجتمع كما يرى هابير ماس في كتابه “نظرية الفعل التواصلي”، إن العالم المعيش اليوم يتحرك وفق نسق فوضوي، لأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يعد يفعل دوره، وظلت السلطة هي الداعمة في خلق جهل مقدس، إن المثقف السياسي اليوم لم يقدم فكرة العالم المعيش باعتبارها مكملة لمفهوم التواصل بين القاعدة والقمة، لأن المجتمع ظل يجتر سنوات الماضية، ولم يستطع أن يجل لنفسه رؤية تتلاءم مع وعيه الطبقي، لذا فهو قادر على الدفاع عن نفسه لخلود نفسه، ويبدو أنه يبحث دوما بشكل آلي عن الترياق باعتباره أداة موته، مقتنع بموته دون حوار، وأن أفكاره لا تنسجم مع فكرة المخزن، لأن الأساس المقدم من طرف المجتمع هو تحسين حياة الإنسان، وأن تكون له كرامة، وقانون وحرية وتشغيل بوصفه السياق العام الذي يتم فيه التواصل وهذا ما يقربنا من الوعي الجمعي حسب مفهوم دوركايم، إن البحث اليوم عند المثقف هو بحث عن الوظائف التي يقوم بها الفعل التواصلي الجمعوي لإقامة عالم متنوع من الأبنية الفكرية والثقافية والتي لا تعني قدرة على التمثل الواقع وتصويره في علاقات متنوعة تنوعا عن شروط الواقع المعيشي، فهو عبارة عن تعبير شخصي ونفسي واجتماعي، حي تستعيد الذاكرة المهمشة هذا الواقع المتخيل، لأن الأفكار المسبقة عنده دوما لا تنتج المعاريف فيبقى مكبلا بالعرف والطقوس، وهذا إلا ترابط يؤسس الحكمة الموضوعية كما يقول دوركان في كتابه “قواعد المنهج الاجتماعي” ص32، بحيث تحدد المعرفة المركزية بالمجال المبحوث عنه داخل المملكة الموضوعية فهو مسموح له أن الحلم يبدع وينتج، أما المهمش فلا تحكم إلا أحلام المجرمين، وهذه الصفة المقاربتية تجعلنا نستشف أن الفكر لا يكون إلا داخل المركز المرتبط بالمؤسسات، أما الهامش فدوره الانصياع والرضوخ والاستهلاك والقناعة، فهذه الحقيقة تبقى اعتباطية نظرا لارتباطها بعلامات الهوية المتعددة التي يحملها المهمش ونظرا أيضا لوضعها المؤسلب.
فكل محاولة قرائية لهذا المهمش هو عبارة عن تفجير عنه الأشياء عبر إيواليات عرفية لا تخرق هذه الذات (الأتولوجيا) التي هي كمعطى تاريخي، فالمركز يأمل دوما أن يوظف الهامش في برامجه سواء سياسية أو تنموية أو ثقافية، ولكن حسب ما يتلاءم مع شروطه الحزبية أو الجمعوية والإيديولوجية أو الدينية، لذا فاهتمامنا بهذا الهامش والمركز هو سؤال مفتوح قابل أن يستوعب جميع الأسئلة المطروحة على الساحة العربية والإفريقية، فرفض المهمش هو رفض للإنسان الكائن الحي العاقل العارف المتأمل، فلا ينبغي أن نوظفه كسلعة أو كمنتوج يباع ويشترى حسب اقتصاد السوق، فإذا سايرنا هذا الطرح المعولم فإننا واجدون أن هذا الكائن الحي لا يملك إلا جسد له، فهو معرض للاستغلال ويتحول إلى شيء مؤسلم وآلة قابلة للعمل والإقصاء، أما إذا سايرنا التحولات التاريخية فإننا واجدون أن المهمش هو صانع التاريخ كما يقول كارل ماكس في كتابه الإيديولوجية الألمانية ولينين أيضا في كتابه “خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الأمام”، وأيضا كتاب ما العمل وكتاب المادية والماركسية وأيضا نجد أصول الفكر الماركسي لإنكلز وغيرهم من المفكرين، ونجد ماوتيطونك الذي قاد الصين إلى بناء مزدهر رغم تأسيس حزب واحد، ولكن الأولوية الزمنية ليس لها تقييم في بناء الموضوع، وتبعا لسنة التغيير فيغدو الإنسان هو مقياس كل شيء وأنه هو الإرادة والغريزة، وهو العقل الكلي، إذن لماذا لا يقرأ ولا يكتب المهمش؟ هل المشكلة في ذاتيته؟ أم أن المشكل يبقى مشكلا ماديا؟ ولماذا العزوف عن القراءة؟ هل أن التكنولوجيا كبلت الفكر لدى المهمش؟ لماذا الطبقة البرجوازية هي التي تقرأ؟
إذا كانت السلطة أو المخزن عبارة عن مؤسسات مرتبطة بقوانين، فإن المجتمع المدني قادر على إدراك هذا العزوف رغم وجود محاربة الهدر المدرسي أو التربية الغير النظامية، فهذا لا يكفي لإخراج الإنسان من جهله المقدس وإدخاله في دائرة النور المرتبط بالمعرفة والعلم والثقافي، إذن ينبغي أن نخلق ثورة ثقافية في البوادي والمداشر والأحياء بفتح حوار ومناقشة أخلاقية التي تنم عن قوة اجتدابية أكثر ما تنم عن قوة برغماتية نفعية، لذا نطالب أن لا يكون هذا المهمش عبارة عن عتبة يسطع فوقه السياسي والنقابي والمثقف السلطوي، نريد إنسانا عضويا لا يبالي بذاتيته ولا بمنفعته الشخصية، يكون همه هو بناء الشخصية المهمشة لتكون قادرة للنقاش على مواكبة تطور المجتمع والتحول البنيوي الثقافي والإنساني، هكذا يبقى هذا الموضوع كخطاب مفتوح وكأرضية قابلة للنقاش دون تسلط ولا تصلب ولا انغلاق، إن يتخذ مكان المهمش أبعاد طوبوغرافية تحكمها المقاييس، ويتكون من مواد مادية ورمزية، ويأخذ جذريته من خلال اللغة، فهي الأداة التي بواسطتها يخترق هذا المألوف، فاللغة تنسج الواقع الممكن برؤية جمالية، لأن ما يهمني في هذه المقاربة الأولى، محاولة تعريف هذا المكان الذي هو وطن الذات والأنا، حيث يمثل حالة الارتباط المشيمي، والوجودي والفكري، ويتحول الزمن ليأخذ أزمنة تاريخية وأسطورية، وتكون الذات ديوانا مفتوحا قادرا أن يستوعب الشروط المعرفية والنفسية، والجمالية، بنى لنا عالما غير العالم الذي نعيش، عالم يكتنفه الغموض، والرمز، واللغة، والغرابة، فراح يثور المفاهيم ويغير أبنية الوعي المغربي وذلك عن طريق سحر اللغة، وهذا السحر هو الهوية، والشخصية، والوطن والحرية، وكذا البنية اللاشعورية الثاوية في العقل العربي المعاصر، إنه جنة عربية ضائعة في عالم معولم، وحين يستدعي هذا المفقود بوصفه حالما ضائعا، فإن الوطن يحضر بكل أبعاده الجغرافية والتاريخية والبشرية، فالمهمش عبر الاختراق الخيالي يستوعب كل الفضاءات المتخيلة والمحتلة التي تشكل جسده فيحاول أن يرحل بنا من قارة إلى قارة لتعبر عن نسق أكثر شمولا لمفاهيم الوجود لدى هذا المهمش ذاته وللثقافة التي ينتمي إليها وانطلاقا من هذا التصور التركيبي والدلالي نستشف أن المهمش يقوم بتشكيل أنساق مكانية التي تتمحور حوله بدرجة إبداعية متواترة، بصورة ملحوظة في خياله، لأن تجربة المنفى تبقى ضرورة حتمية تصاحب هذه الذات أو تسبقه عبر الاسترجاع أو الاستباق، بوصفها معادلا شعوريا لفكرة الوطن، فالهوية لن تموت رغم القيد والدمار، كما يقول درويش، وإذا كان المكان غربة الوجود، أو كغربة الرحيل لأنه يمثل مخيلة تراوح بين الداخل والخارج، إنه البنية الثاوية العميقة لمفهوم هذا المكان، حيث يتخذ هذا الفضاء مسارا خطيا لا يقتصر على محور اختياري للكلمات بل يعتمد على النسق المكاني الضامن له، فالنور يشكل بؤرة أو مركز يستقطبه القارئ بشكل تفصيلي، حيث يرتبط بالولادة وبالحياة، وبالكوكب الثابت حول المركز، لأنه المفتوح والمغلق والمتسع والضيق، فينتظر المهمش ظهور بشارة العودة إلى أصله، يظهر إذن هذا الممكن العودة في سياقات لتشير إلى أنغام إيقاعية ترفع أصواتا إلى أوطان التي تلاحقه في صمت نحو قرار نهائي، إذن كيف يمكن اختزال هذا الثراء، إذن لابد أن نتحدى تغوم المألوف، وعبقرية الجهال، وبلاغة الفقهاء، لكي نصل إلى بر الأمان، فالهامش هو الإطار الفكري لعملية الإدراك الذاتي، بمعنى أنه هو ترسانة من القيم والمعرفة، والفكر، إذن فهو يشتمل على الإنتاج الأدبي والفكري والفني، بهذا المعنى فالمهمش هو الذات، والسفر هو المجال الذي يحول الآني العابر إلى نظام يتسم بالتماسك من ناحية، كما يتسم بالتماس العضوي بين الداخل والخارج، لأن درجته لا تستقيم عن طريق الموروث بل بالخصوصية الحضارية والصورة التي يكونها المجتمع لنفسه، فالخيال يرتبط أيضا بتحديد دور هذا المجتمع، فهو أمر منوط بمثقفي الأمة ودرجة وعيهم بالأنساق المشكلة لثقافتهم ومدى قدرتهم على تجاوز كل الأنماط من أجل الحضور الإبداعي، فلا شك أن التواصل مع المهمش قد طرح عدة أسئلة دالة على التفاعل النصي بين مكونات الذات المبدعة وبين العالم الخارجي من ناحية ثانية، هو الحقيقة المرتبطة بالقضية وهذا ما ذكره درويش في قصيدته “مأساة النرجس وملهاة الفضة”، فالتواصل مع المهمش أمر صعب يتطلب الدربة والممارسة الهامشية لأنه لا يخشى الموت، يبعث بالفينيق، ولا يركع للظالم، يصلي في محراب مريم، ينشد شعرا لنا لكي يكون قانونا لهذا الوطن الذي يواجه العدو (السلطة) لا يستسلم للذل والهوان، بل يحمل صخور الأيام لكي يحاسب الذاكرة الأممية، هكذا هو الإنسان العاشق للحرية، لا يقبل الاعتراف بالخطيئة، ولا بالمصالحة الإمبريالية، بل يقبل أن يعيش فوق أرضه، ويتنسم تاريخه، لا أن ينتظر من ذاك الأمريكي أن يبني له بيتا من القش، يموت ويحيا في وطنه، وتحية لكل قلم طائر في سماء الحرية ولكل إنسان حالم وثائر ورجل في سفر يترنح وهو يتوق لامرأة كأم حنون “إنها الوطن”، فالمثقف يحاول جاهدا أن يوصنا إلى البداية واللانهاية وإلى الهوية المؤجلة وإلى التنوير وما بعد التنوير، لأنه غزى برؤيته كل الأمكنة المسيجة من طرق السلطة الحاكمة، كل هذا من أجل إزالة الحجب أيضا عن دوائر الاستلاب الذي نعيشه، لأن هذا الوعي النقدي الذي يباشره يدفعنا إلى إعادة النظر في هذه القيم الجديدة التي تجعل الحياة الاجتماعية أمرا صعبا ومكروها، سواء على المستوى الثقافي أو التعليمي أو الاقتصادي لذا يسعى المثقف العضوي إلى مواجهة البنيات السائدة التي فرضها صندوق النقد الدولي قصد عقلنة الذات التواصلية أخلاقيا وروحيا كما يقول ديلتاي (بومدين بوزيد – “الفهم والنص” ص92 – منشورات اختلاف)، فالنقد العقلاني إذن هو عتبة عليا التي من خلالها نعيد النظر في المهيمن والمتسلط على ثروات الجماهير الشعبية، وهذا التوجه نحو المحاسبة يسمح لنا بفهم المظاهر الخارجية للتوجه نحو التفكير المعقلن لما هو داخلي، وهذا يشكل أهمية خاصة لفهم العلاقة بين المثقف العضوي والمجتمع القاعدي، وكذا استحالة العودة إلى الماضي كاستحالة معاينة إكلينيكية لحالة وفاة ما كما يقول جون كريش في كتابه عمر حقيقة الهيرمينوطيقا – فرن – 1996 ص129، إذن يهدف المثقف المهمش في إبراز القاسم المشترك بينه وبين الجماهير الشعبية، حيث يتجلى في كونهم يساهمون وفق استراتيجية منظمة في صياغة أطروحة: من، وكيف ولمن، فهذه الكلمات هي علامات التي تتنبأ بالمحاسبة وهذا ما صدر عن المجلس الأعلى للحسابات، وعن المنظمات الدولية بأن المغرب يحتل مكانة متأخرة من حيث أجور رجال التعليم، حيث أن الأمل عاد أسطورة حديثة، انكشف فراغ مضامين الحكومة الهامشية التي أحاطت نطاقها بنوع من سياج مفهومي واجتماعي، وذلك لإبراز حدتها الحاسمة، فإن هذا التحديد لا يغيب عن نظر المهمش لكون هذا البناء تقيد بغيره وتشبه به، وهذا يصح كما تقول التأويلية، وهذا التشظي في هذا المشهد النقدي الاجتماعي لا يعد كونه حاملا لما يحدث خارجه في المشهد المغربي، ولما يحدث فيه من تغيرات أصابت المثقف العضوي خصوصا، وخففت من غلوائها من ادعاءاتها الآمرة والناهية، وتبدو لنا العودة إلى القاموس الجماهيري لمعرفة التغيرات اللافتة لا تقتصر على إجراء تعديلات في المنظور النسقي الاجتماعي، بل لتدشين الحوار في القضايا الأساسية التي طرحها الواقع المغربي، فلم يعد المثقف العضوي ضحية المركزية بل يدعي امتلاك الكلية، ومن ثم يجب عليه أن يتخذ من الواقع موقف المواجهة وليس المسايرة كما يرى محمود اسماعيل في كتابه “نقد حوار المشرق والمغرب” ص50، وهذا التحدي الذي يواجهه منذ تأسيسه لمشروعه الاجتماعي ولا يزال هو إمكانية تقديم براديكم متنامي للواقع الاجتماعي، إذن هو إمكانية ترتكز على دعائم موضوعية من فهم لهذا الكائن المهمش، وتعظيم لقدراته على التحكم فيه وبه، وبقدر مناسب من التفسير بمتغيرات هذا الواقع المغربي، فالصورة الكلية التي عليها الإنسان المغربي، نستطيع رؤية أن هذا الواقع يمثل أمرا عسيرا على الإدراك الحسي الملموس كمصدر جوهري لمعرفة هذا الواقع، واتجاه النقد العقلاني الذي يتأسس على دلالة التفكير وعمليات تحول في إدراك هذا الواقع بتلك المصادر التي يتعين على المثقف البحث فيها عن موضوع الإنسان المهمش، فإن الاتجاهات السائدة ترتبط بالتصورات المغايرة التي يتصورها السلفي والأصولي والحزبوي، بينما نجد المثقف العضوي يتجاوز هذا الوضع القاصر لكي يشير إلى الأزمة الحالية التي وجد فيها المهمش نفسه من جراء التطورات التاريخية الماضوية والمعاصرة لواقعنا، فالمهمش هو الذي يصنع عالمه ولكنه يعجز عن التحكم به، ولكن من المفترض أن يقدم لنا المثقف العضوي تنظيراته عونا في ذلك لتكون لدينا مناعة التي توقظنا من سباتنا ومن تخلفنا، لقد أطلقت النقابات والتنسيقيات وبعض جمعيات المجتمع المدني ثورة تواصلية كان من نتائجها فتح أفاق غير مسبوق في تاريخ المغرب بحل مشكلات تربوية وثقافية واجتماعية والسكن والصحة، لكن ذلك قد ترافق مع فتح أفاق أخرى وغير مسبوقة أيضا تتمثل في حرب الكيان الصهيوني مع الفلسطينيين، وروسيا وأوكرانيا وكورونا وانهيارات وروحانية لأقسام مستمدة من العولمة وأجهزة سياسية مؤدلجة ومفبركة، ولهذا حاول المثقف صياغة هذا الوضع ممارستيا في نسيج مفهومي جديد لمقاربة ظواهر الصراع الطبقي كان أبرزها مفهوم الاغتراب، ويقول يرتي السوتاري <<يعتبر هذا الاغتراب نتيجة لأوضاع اجتماعية جسدها نموذج اجتماعي معين هو النموذج الاجتماعي الرأسمالي الذي انطلقت في إطار ثورة الإنسان المعرفية والنظرية بنتائجها المشار إليها أعلاه>> “النظرية الاجتماعية والواقع الإنساني”، تر علي فرغلي ص11 – المركز القومي للترجمة، وانطلاقا من هذا الطرح نستشف أن هذه المفارقة التي يحملها المهمش تختلف في معانيها، هكذا نجد في كل المجتمعات هناك سلطة ما كقوة تمارس هيمنتها بارتياح شديد، حيث يكون العنف مكان الحوار وأن المثقف اللبرالي يتخلى عن شجاعته في التعبير عن أفكاره مقابل تأمين احتياجاته المادية كما يرى جان ديفينيو في كتابه “مدخل إلى علم الاجتماع” تر فاروق الحميد ص43 ط1 – 2011، وهذا الإدراك الواعي الكائن في تضاعيفنا يكون إدراكا لحالة الوعي النفسي الذي يحسه المهمش، وهنا يحق لنا أن نتساءل: لماذا يعيش المهمش خارج الواقع؟ وهل المشاعر واحدة عند المهمش؟ وهل هو قادر على تغيير واقعه جديرة بحياة الإنسان، باعتباره إنسان على ما يدرك من هذا المعنى في أرفع منازله، بل أقول إن القاعدة الجوهرية التي تعلل النواهي والأوامر، والقوة التي ترافق الحياة والحرية والحقوق، فإننا بالتواصل والحوار الديمقراطي نبدع قاعدة مثلى في السلوك الأخلاقي والاجتماعي.