مقال فلسفي حول قول بوتين “من أراد السلام فلينتظر الحرب”: هل هو هراء، أم خرافة، أم أسطورة لم تخلق بعد؟
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- بقلم: زكية العروسي 
في عالم يسوده التوتر، ويعصف به صراع القوى، يقف القول المنسوب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين “من أراد السلام فلينتظر الحرب” كحلقة غامضة من حلقات الفكر السياسي التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة، والمنطق باللا منطق، والواقع بالخيال. هذا القول يحمل في طياته الكثير من الأسئلة التي لا تتوقف عن الاستفزاز الفلسفي. هل هو مجرد هراء عابر من زعيم في خضم معركة سياسية؟ أم هو خرافة عميقة تختزن فيها رؤى القوى الكبرى وتاريخها؟ أم أنه أسطورة لم تخلق بعد، تحدد أفق المستقبل البشري في ضوء تحولات القرن الواحد والعشرين؟
من الناحية الفلسفية، لطالما كان السلام والحرب في علاقة تناقضية معقدة. السلام ينظر إليه كحالة من التوازن والانسجام، بينما الحرب كحالة من التفكك والدمار. ولكن هل يمكن أن يكون هناك نوع من التقارب بينهما؟ هل قد يتداخلان في مفهوم واحد يعكس فلسفة السلطة والقوة في عالمنا المعاصر؟
في الفكر الفلسفي الغربي، نرى أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه “مشروع السلام الدائم” يذهب إلى تصور سلام قائم على العدل والمساواة، لكن يبدو أن بوتين يطرح رؤية مغايرة تماما، رؤية تعكس واقع القوة العظمى في عالم يتسم بالتنافس الحاد على النفوذ والمصالح. بالنسبة له، يبدو أن السلام لا يمكن أن يُنعم به إلا بعد أن يُختبر العالم بالدمار؛ بعد أن تستنفد الحروب كل الإمكانيات، وتحكّم القوى على الأرض من خلال لغة القوة، لا لغة الحقوق.
أولا، لننظر إلى الفكرة من زاوية الاحتجاج على هراء القول. في هذا السياق، قد يعتبر ما قاله بوتين تعبيرا عن قسوة سياسية لا مبرر لها. كيف يمكن لشخص في موقعه أن يعلن أن السلام مرهون بالحرب؟ هل هذا تصريح متهور وغير مسؤول، يتناقض مع القيم الإنسانية التي ترنو إلى الحد من النزاعات؟ هذا سؤال منطقي يعكس فهمنا التقليدي للسلام كهدف يجب السعي إليه بطرق دبلوماسية وسلمية، وليس كخيار ينتظر بعد حرب دامية. في هذا المعنى، يصبح قول بوتين مجرد هراء يجر العالم إلى هاوية من الفوضى.
في تفسير آخر، قد ينظر إلى هذا القول كخرافة سياسية تهدف إلى ترسيخ فكرة أن الحرب ضرورة حتمية لتصحيح مسارات السياسة الدولية. ففي التقاليد القديمة، كانت الحروب تعتبر من وسائل إعادة بناء العالم أو إعادة تشكيله بما يتناسب مع مصالح القوى العظمى. إذا عدنا إلى الأساطير القديمة، نرى أن الحروب كانت تعد نقطة تحول أو “بداية جديدة” لنظام عالمي جديد. هذا التصور قد يكون هو الذي يروج له بوتين، حيث يرى في الحرب أداة ضرورية لتصفية الحسابات واستعادة النظام العالمي. فكل ما يقال عن السلام في عصرنا الحالي قد لا يكون أكثر من “خرافة” تؤجل المواجهة الحتمية، ولكن لا يمكن إيقافها إلى الأبد.
ولكن إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية فلسفية أعمق، قد نرى أن القول “من أراد السلام فلينتظر الحرب” يمثل بداية أسطورة لم تخلق بعد. ربما ليس المقصود هنا تحديد الفترات الزمنية التي تسبق أو تعقب الحرب، بل هو دعوة إلى التفكير في مستقبل جديد للبشرية. في هذا السياق، قد يعكس قول بوتين تطورا تاريخيا للعلاقات الدولية حيث تتطور القوى الكبرى في مسارات متوازية مع الخوف من السلام. السلام الذي أصبح مفهوما ضعيفا، هشا، يحتاج إلى الحروب كي يختبر، ليصنع، ليخلق. ربما تكون هذه الأسطورة تشير إلى أن الحروب هي في الحقيقة المولد الذي ينجب السلام المُؤجَّل، السلام الذي سيكون ثمرة لصراع طويل، يمكن للإنسانية في نهايته أن تكتشف قيمتها الحقيقية.
من منظور سياسي، يمكن اعتبار قول بوتين هو تعبير عن فلسفة القوة التي تميز السياسة العالمية اليوم. القوة العسكرية تعتبر أساس الاستقرار في عالم مضطرب، ومع تزايد التحديات الجيوسياسية، قد تبدو الحروب بوصفها “الطريقة الوحيدة” لتحقيق السلام الهش، إن كان من الممكن تسميته كذلك. قد يكون هذا التفسير هو الأكثر منطقية إذا ما نظرنا إلى التاريخ الذي شهد العديد من الحروب الكبرى التي شكلت النظام العالمي الحالي. ولكن هل حقا يفترض أن يكون هذا هو المسار الوحيد الذي يؤدي إلى السلام؟
إن قول بوتين “من أراد السلام فلينتظر الحرب” يمكن أن يُعتبر يا قارئي بمثابة إنذار فلسفي قوي، تحذير من الدخول في مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية حيث لا يمكن للسلام أن يُحقّق إلا عبر العنف المدمر. هل هي هراء؟ أم خرافة؟ أم أسطورة لم تخلق بعد؟ لا يُمكننا الجزم بالإجابة على هذا السؤال بسهولة. لكن ما يمكننا قوله هو أن هذا التصريح يعكس تصورات صادمة عن واقعنا السياسي والإنساني، ويحفزنا على التأمل في معنى السلام والحرب في عالم اليوم.