عيد الوحدة.. انتصار دبلوماسي محسوم تتويجا لخمسة عقود من النضال المستمر
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- بقلم: فيصل مرجاني

إن تشكّل هندسة السلطة في النظام الدولي المعاصر، وما يعاد إنتاجه من مفاهيم السيادة وحدود الشرعية، يكشف اليوم عن لحظة فاصلة يتقدّم فيها المغرب لا بصفته فاعلًا إقليميًا مكتسبًا للثقة فحسب، بل بوصفه كيانًا تاريخيًا–حضاريًا متجذّرًا في الذاكرة العميقة، ممتدّ الشرعية عبر الزمن والمؤسسة، ومفعّلًا لسلطته عبر عقل استراتيجي وبراغماتية سيادية تُدرك جدلية القوة والحق، وتوازن بين منطق التاريخ ومنطق المصلحة، بين سيادة الشرعية وشرعية الفعل. ولعل القرار الأخير لمجلس الأمن، مقرونًا بالتجديد الصريح للموقف الأمريكي الداعم لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية وما رافقه من اصطفاف دولي واضح خلف المبادرة المغربية للحكم الذاتي بوصفها الإطار الواقعي الوحيد للحل، لا يمثّل مجاملة دبلوماسية ولا لحظة ظرفية في سجل العلاقات الدولية، بل يشكّل نقطة ارتكاز تأسيسية تُعلن الانتقال من منطق الترافع القانوني إلى منطق تكريس الحقيقة الجيوسياسية فوق أرض تُدار بسيادة فعليّة وتُحكم بمؤسسات دستورية وتُصان بوعي جماعي يدرك أن السيادة لا تُنتزع من النصوص بل تُصاغ في الفعل العمومي وفي القدرة على حماية المجال ومراكمة شرعية الإنجاز وتفعيل حضور الدولة بوصفها سلطة وأفقًا وذاكرة.
إن هذا التتويج الدولي ليس مجاملة وليس انتصارًا خطابيا، بل هو لحظة انبثاق لسيادة متجسدة تتحوّل فيها المطالبة التاريخية إلى ممارسة سيادية تُدار ببراغماتية عقلانية طويلة النفس، تُترجم الإرادة الوطنية إلى واقع وتتجاوز منطق ردّ الفعل نحو تأسيس يقين استراتيجي يربط الحق بالتاريخ ويمدّه بالقانون ويحصّنه بالقوة المشروعة. وهكذا تتكرّس حقيقة أن قضية الصحراء ليست اختبار حدود بل اختبار معنى الدولة في جوهرها الفلسفي والسياسي، ومدى قدرتها على تحويل السيادة إلى ممارسة دائمة لا تنصاع لتقلبات اللحظة ولا تُساوم على امتدادها الوجودي، بل تُدار بوصفها قدرًا تاريخيًا مُلزِمًا وإعلانًا سياديًا يتجاوز الخطاب نحو الفعل، والشرعية نحو تثبيتها، والزمن نحو صناعته.
لقد أعاد المغرب، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، صياغة الدبلوماسية من بوابة مشروع سيادي متكامل، يقوم على إدراك عميق للشرعية بوصفها توازناً بين الحق التاريخي والقوة المنتجة للقرار، وبين الذاكرة الجماعية والإدارة الذكية للتحالفات الدولية. وهكذا تحوّلت الدبلوماسية المغربية من حالة دفاعية متصلة بتاريخ مرحلة ما بعد الاستقلال إلى حالة هجومية راشدة، قادرة على ضبط دوائر التأثير، وتحديد موازين المصالح، والتفاعل مع مراكز القوة الدولية من موقع المبادرة وليس من موقع التلقي. إن هذا التحوّل لم ينبني على الظرف السياسي أو توجيه اللحظة، بل على رؤية ملكية عميقة جعلت من ملف الصحراء محورًا تأسيسيًا لمفهوم الدولة ووحدة الأمة ومركز الثقل في العقيدة الاستراتيجية المغربية.
وبناء على هذا الأساس، لم يعد الدفاع عن الصحراء مغامرة خطابية أو تمرينًا دبلوماسيًا، بل هو ممارسة سيادية تستند إلى إرادة وطنية جماعية، تتجلى فيها عبقرية التعاقد التاريخي بين العرش والشعب، ذلك التعاقد المجبول في الوجدان المغربي منذ قرون، والذي يتجدد اليوم بأكثر أشكاله تطورًا، حيث تلتقي الدولة بمختلف تجلياتها المؤسساتية مع الأمة بمختلف روافدها الثقافية والدينية والسياسية، في صيغة وطنية متماسكة تنتج الإجماع لا تستهلكه، وتحمي الشرعية لا تتكئ عليها فقط، وتستدعي المغاربة كافة، داخل الوطن وخارجه، مسلمين ويهودًا، دبلوماسيين وسياسيون وفاعلون مدنيون ورجال أعمال ومفكرين ومثقفين وإعلاميين، في عملية تعبئة تاريخية تجعل من الهوية المغربية قوة جيواستراتيجية عابرة للحدود، ومن الانتماء قوة ناعمة متحكمة في صيرورة القرار الدولي.
لقد أثبت المغاربة، أفرادًا وجماعات، أن الوطنية ليست انفعالًا لحظيًا، بل هي امتداد حضاري متجذر في الذاكرة ومُفعّل في السلوك السياسي، وأن اليهود المغاربة في كل أنحاء العالم، بما يمثلونه من عمق حضاري متجذر في الهوية المغربية ومكانة اعتبارية داخل مراكز القرار الاقتصادي والسياسي الدولي، شكّلوا رافعة دبلوماسية فريدة في التاريخ الحديث، حملت صوت المغرب باعتدال ورصانة وقوة، وعكست جوهر الدولة المغربية كدولة تعددية الوشائج، لا تنغلق في قومية ضيقة ولا تنزلق في شعبوية سطحية، بل تمارس الوطنية بوصفها وعيًا حضاريًا ومصلحة استراتيجية متوازنة وحضورًا إنسانيًا متكاملًا.
لم يكن الدعم الدولي للقضية المغربية، وعلى رأسه الموقف الأمريكي بقيادة الرئيس دونالد ترامب، مجرد تعاطف اخلاقي، بل نتاج قراءة استراتيجية دقيقة لقدرة المغرب على الدمج بين الشرعية التاريخية والقوة الواقعية والاستقرار الداخلي، وفي هذا السياق جاء التقدير الملكي السامي للرئيس دونالد ترامب خلال الخطاب الملكي بهذه المناسبة الوطنية الراسخة، إلى جانب تخليد اسمه عبر تسمية أحد الشوارع الرئيسة بالعاصمة الرباط، ليس مجاملة سياسية او تكريم بروتوكولي، بل كإقرار بدوره الفاعل في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي وتعزيز مكانة المغرب كمرجعية إقليمية للاستقرار وفاعل جيوسياسي مؤثر. هذا التقدير يؤكد أن المغرب قادر على تحويل إرادته الوطنية إلى واقع ملموس، يجمع بين الحق التاريخي والمنفعة الجيوسياسية، ويثبت دوره في النظام الدولي بوصفه قوة ذات سيادة ومرتكزًا استراتيجيًا في محيط إقليمي متقلب
ومن رحم هذا التراكم التاريخي وهذا النضج السياسي-المؤسساتي الذي بلغته الدولة المغربية في عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ومن صلابة الوعي الجماعي الذي تبلور عبر عقود من الكفاح الدبلوماسي والوطني، برز تاريخ 31 أكتوبر 2025 بوصفه لحظة تأسيسية في معمار السيادة المغربية، لحظة انتقال من شرعية الترافع إلى شرعية الحسم، ومن منطق الإثبات إلى منطق التثبيت، ومن الدفاع عن الحق إلى ممارسة الحق وترسيخه في النظام الدولي كحقيقة لا تزعزعها تأويلات الخصوم ولا حسابات اللحظة.
وضمن هذا السياق التاريخي-السيادي الفارق، جاء القرار الملكي السامي بجعل هذا التاريخ عيدًا للوحدة، لا باعتباره موعدًا احتفاليًا عابرًا، بل كإعلان وجودي محمّل بدلالات الدولة العميقة ورمزية الأمة الواعية بذاتها. إنه عيد لا يُحتفى فيه بالذكرى كزمن، وإنما يُؤسَّس فيه للذاكرة كهوية، حيث تتحوّل وحدة التراب من مجرد مفهوم قانوني إلى عقيدة سياسية-وطنية، ومن معطى جغرافي إلى مبدأ وجودي، ومن شعار سيادي إلى ممارسة فعلية مؤيدة بإجماع الأمة ومسنودة بشرعية دولية صريحة.
إن هذا القرار الملكي السامي لا يكرّس فقط انتصارًا دبلوماسيًا وسياسيًا بالغ الدلالة، بل يؤسس لمرحلة جديدة يُرسّخ فيها المغرب واقعًا ثابتًا مؤدّاه أن الدولة لم تعد تُطالب بحقّها في صحرائها، بل تُمارسه وتُرسّخه وتُنتج حوله شرعية متجددة تتجاوز حدود النصوص القانونية لتستمد قوتها من الفعل العمومي، والفاعلية الاستراتيجية، والقدرة على تحويل الجغرافيا إلى ذاكرة، والذاكرة إلى مشروع، والمشروع إلى واقع سيادي متجدد يمتد من التاريخ نحو المستقبل دون انقطاع، ومن المجال نحو الوجدان الوطني، ومن بنود القانون الدولي نحو القوة الواقعية للدولة واستمراريتها.
وهكذا يتجسد المغرب اليوم، ككيان سياسي-حضاري قادر على خلق الإجماع الوطني، وتفعيل القوة الذكية والناعمة، وإنتاج المعنى السيادي، وصياغة مستقبل لا يُفرض عليه بل يصنعه، مؤمنًا بأن الحق حين يُستند إلى الشرعية التاريخية، ويُحمى بالعبقرية السياسية، ويُدافع عنه شعب موحد بقيادته، يتحول من مطلب إلى واقع، ومن ملف إلى قدر، ومن نزاع إلى لحظة تأسيس دولة متجددة في مسارها ومكانتها وصوتها في العالم.
الشاملة بريس صحيفة ورقية والكترونية مستقلة شاملة