سنوار الشعر “محمود درويش” القصيدة التي زرعت الرعب في تل أبيب
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- إعداد: زايد الرفاعي / باحث في الخطاب الإعلامي
[على أرض باريس; كتب درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”…!] ولد محمود درويش في قرية فلسطينية اسمها البروة، أزالتها جرافة الاحتلال من على الخريطة في خمسينيات القرن المنصرم، كل ما تبقى منها اليوم لا يعدو بضعة أطلال وشجر صبار.كان محمود درويش في السادسة من عمره عام 1948، حين ألقي بعائلته إلى طريق الترحيل والتهجير مع مئات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين، إنها صدمة طفولة وجهها له المحتلون بوحشية، وندبة على جباه الفلسطينيين كلهم، فإخراج درويش وذويه من أرضه سيلهمه فيما بعد. لقد عرف محمود بذكائه، وروحه الخفيفة، وأحيانا عصبيته المفرطة، وهي خصال استمدها وراثيا من أمه.
إن كتابة الشعر وقراءته بالعربية كان شكلا من أشكال المقاومة، لهذا تم حبس درويش في سجن عكا بتهمة كتابة الشعر القومي الذي لم يسترض ذوق الحاكم العسكري، وبعد أن طلب منه ظابط عسكري هويته مشى بتشامخ ورد عليه بغضب مرددا: “سجل أنا عربي، سجل أنا عربي…” لتصبح العبارة بعد ذلك عنوانا لأشهر قصائده.
كانت إمكانية التعايش مع اليهود واردة عند درويش نفسيا وثقافيا، لكن المشكلة تكمن في السياسي منها، هذه الإشكالية في التعايش توفرت لديه بعد احتكاك طويل باليهود، فالحاكم العسكري الذي عاقبه على كتابة الشعر كان يهوديا، والمدرسة التي لقنته العبرية وفتحت موهبته على الأدب كانت يهودية، حتى عشيقته الأولى “ريتا” كانت يهودية، رفاقه في العمل السياسي أيضا كانوا من اليهود، بل إن ترنيمة درويش الأولى عن الحب كانت موجهة إلى محبوبته اليهودية، وأصبحت مشهورة بعنوان “ريتا”، وبعد 20 عاما توجه إلى كتابة قصيدة لاذعة إلى الإسرائيلي الذي أخد مكانه في بلدة الجليل.
إن قلم درويش، إيقاعه، أسلوبه ميزاه عن الآخرين، ففي عمر الثامنة عشرة، وجد بفضل مجموعته الشعرية الأولى، مكانه الطبيعي الخصب، بين المواهب الشبابة المشرقة التي شجعها الشيوعيون، وفي سن 20، تم تعيينه لتحرير الملحق الأدبي بصحيفة الاتحاد ذات التوجه الماركسي، محاولا كتابة كل شيئ، من الكتابة القيادية السياسية إلى النقد المسرحي، وبالطبع كتابة الشعر.
كانت حياته هاته الفترة حركية بعيدة عن التقليد، يقضي فيها ساعات ليضع العالم إلى جانب رفاقه في السلاح بعين الخبر، كان الحزب ضد إسرائيل، والوحيد الذي يدافع عن الحقوق والهوية الثقافية للفلسطينيين الذين بقوا بفلسيطين، وخلف النوافذ كان البحر حيث تجثم حيفا، المدينة الأولى في حياة وعالم درويش، لكن لم يمض كثير من الوقت حتى سخره الأسطورة يراعه وسلاحه الناعم دفاعا عن الوطن بل عن الأوطان الجريحة ككل.
حين أصبح محمود في سن الخامسة والعشرين بدأ شعره بالترحال من بيروت إلى بغداد، ومن القاهرة إلى الجزائر، يستمع العرب إلى صوته، صوت فلسطيني فلسطين، وفي عام 1971، أمن له الحزب منحة دراسية ليدرس لموسكو، وهذا الحدث كان سببا في انفتاحه على العالم، والتقائه بالشباب الشيوعي، ومن جهة كان درويش يعلم أنه لو نجح في الوصول إلى مصر سيرحبون به بدراعين مفتوحين، فإتخد قراره بسرية تامة أن يبقى في المنفى، حتى وإن كان ذلك يعني دفع ثمن عدم القدرة على العودة إلى موطنه.
وقد انفتح الأفق الثقافي العربي أمام درويش، فقاده نحو الحداثة الشعرية والفاعلية السياسية باتجاه بيروت والثورة الفلسطينية، فهو يحتاج إلى شعبه، وشعبه يحتاج إلى موهبته الشعرية.
” لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع
لا الماء عندك لا الدواء ولا السماء ولا الدماء ولا الشراع والأمام ولا الوراء…
لقد سقط القناع عن القناع
عرب أطاعوا رموهم، عرب وباعوا روحهم، عرب وضاعوا”
جلبت بيروت لدرويش التجديد في اللغة والشكل، مئات القصائد، قصائد الحب، قصائد الثورة، قصائد تكتسي كلمات تقول ما لايقال، وفي باريس توج الإعتراف الدولي الشهرة العالمية لأعمال درويش، والتي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وفلسطين التي كانت تظهر في صفحات الأخبار أدخلها إلى صفحات الفن، والطفل الذي أخرج من الجليل أعاد اسم قريته إلى خريطة العالم، والغريب أن باريس التي أقام بها صدفة، توجته ب 11 عملا شعريا كتبها في أقصى مكان من منفاه، والمعنونة ب “نادرة هي الزهور”.
ولربع قرن حمل درويش معه ألق التجوال والترحال، عبر الفنادق والمطارت عبر أنحاء المعمورة، مغيرا داره مع كل أزمة تصيب الشرق الأوسط، يبدل وثائق السفر لتوافق التحالفات الفلسطينية، مشاركا شعبه المنفي رهاب السفر، والإنتظار الطويل على الحواجز والحدود، مبرهنا أنه شاعر العروبة، يثير الوهج الشعبي ويستميت في التواصل مع قضايا الجمهور، فاستحق التبجيل، والتفرد، والمهابة.
إن القصيدة عنده لا توزع صورا بلاغية واستعارات مجازية، إنما توزع مناظر طبيعية، وقرى وحقولا، أي توزع أمكنة، وسقط أقنعة وتسمح للغائب عن الجغرافيا الحاضر في صورتها، قادرا على الإقامة في نصها الشعري كأنه مقيم في الأرض، وفي اللغة العربية تطابق جميل بين السطر الشعري والبيت نفسه، والشعر جعل لهذا الإنسان بيتان يسكنهما.
إن سمفونية الشعر لا تتحقق عند درويش إلا إن حملت وراء القصيدة ذلك الطقس الإنشادي، فشعره يتطلب شروطا موسيقية وإيقاعية لا تتوفر في القصائد السردية؛ أي هناك حالة احتفالية بين الصوت والصورة والجسد، وبين الكتابة الجماعية للنص من جديد.
ففي موطنه الأم الجليل، المحرمة عليه، عملت الكلمات التي كتبها في القاهرة وبيروت وتونس وباريس… على استعادة منظرها الأصلي الذي ابتدعت منه.
لنتأمل هذه الأبيات: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة
تردد أبريل رائحة الخبز في الفجر تعويذة امرأة للرجال، كتابات أسخيليوس، أول الحب..
أمهات تقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات”
يجد درويش متعة خاصة في السيطرة على القالب الشعري والإيقاعات والجانب اللغوي، سيطرة تعطيه شرعية التمرد على قواعد اللغة، فهو متمرد ومجدد من خلال المعرفة وليس من باب سد النقص في مجال الشعر، فهذه المفارقة بين الحداثة والهيمنة الكلاسيكية، تعطيه خاصية تفكيكية؛ أي الحق في التجديد والتخريب، وكذا الحفاظ على العلاقة بين النص الشعري وقارئه.
أيضا، للقهوة حضورا دائما في شعر درويش، فالقهوة التي استخدمها هي جغرافيا، هي رحلة، إنها تمثل استعارة وشعرية في كل قسم منها، وتنسجم مع وحدته التى أدمنها عليها، فعدم استقراره في المكان، بل وحتى في خياره الشعري، مرده إلى عزلته رغبته في استقبال الصباح حرا من أي حوار أو أي نقاش أو مشاركة، لدرويش أيضا أشواق ونداءات داخلية، وصوت الملح في الدم ينادي الآخر، لكن ليس بمعنى المؤسسة.
“ياسمين لليل تموز
أغنية لغريبين بشارع لا يؤدي إلى هدف
من أنا بعد عينين لوزيتين يقول غريب
من أنا بعد منفاك تقول الغريبة
حين انتفض الفلسطينيون في وجه الاحتلال الإسرائيلي، رافقتهم كلمات درويش، وحين احتفلوا ببراقة الإستقلال الأول، كتب درويش مناديا بدولته المستقبلية، وحين اعترف العالم أخيرا في حقهم بالعيش وبدأ السلام أمرا محتملا، خط درويش نص الوداع لآخر مكان له في المنفى، لأن الأمل في العودة كان رحيلا آخرا، وانفصالا آخرا، كان هذا يعني لدرويش توديع لتونس، بعد أن أسس لمنظمة التحرير الفلسطينية ملاذا مقرا فيها، فكانت قاعدة درويش في التجوال مابين التجوال باريس.
في إحدى فترات حياته الأخيرة، راجت إشاعة أن الرئيس الراحل ياسر عرفات عرض مهمات رسمية وزارية عليه، وأن يقلده مناصب سامية في حكومته، وهذا ما أكده درويش؛ حين قال: أن الرئيس “أبا عمار” طلب منه مرة أن يكون وزيرا، فرفض درويش، فأجاب ياسر عرفات، “ماذا أضر مانرو حين أصبح وزيرا في حكومة ديغول”، فأجابه درويش، بأنها ليس نفس الفروق على الأقل، ففرنسا ليس هي الضفة الغربية وغزة، و وضع شارل ديغول ليس هو وضع أبا عمار، وأندري مانرو ليس محمود درويش، وحتى إن أراد ذلك، فإنه يتمنى أن يكون جون بول سارتر!
سمح لدرويش مرة واحدة فقط، سنة 1966، دخول موطنه الأم الجليل لمدة خمسة أيام، فيها احتفى بالأسطورة أبناء عائلته، وكرمه أبناء إخوانه وأخواته ورفاقه الذين ولدوا في غيابه، لكن صوته الأبي بقي صداه يتألق في فلسطين مناديا: “أحن إلى خبز أمي، أحن إلى قهوة أمي…”
رحل عنا محمود درويش في 8 غشت 2008، عن عمر يناهز 67 عاما، في حياة دأب ينتقل فيها من قمة إلى أخرى أعلى منها، دونما ملل أو كلل، كان إنسانا أنيقا جميلا قبل أن يكون “متنبي عصره”، يرى ما لا نراه، ويعبر عن الواقع بلغة وكأنها وجدت لكي لا يكتبها غيره.
وحين قرر أن يخوض غمار العملية الجراحية الأخيرة، اعتقد الجميع أنه سيهزم الموت كما هزم أمورا كثيرة في المرات السابقة، لكنه وبعينه الثاقبة، رأى على ما يبدو شبحه “قادما من بعيد”، فأراد أن يفاجئ الموت بدلا من أن يفاجئه الأخير بانفجار القنبلة الموقوتة التي كانت شرايانه المعطوب.
ولأول مرة تخونه العبارة، فدرويش القائل: “سأصير يوما ما أريد”، أعلن الرحيل قبل أن يرى موطنه حرا أبيا، لكنه كعادته بدا مستعدا للموت، تاركا خلفه قصائد من نور وأخرى من نار تنعي كل من باع الوطن وخان، كما ترك وراءه الأحرار -تركنا نحن- كي “نربي الأمل”.
وفي الختام؛ على خطى محمود درويش سيقف كل حر حالم أبي، على ناصية الحلم ويقاتل، حتى يصير يوما مايريد كما قال الأسطورة.
صفوة القول; من يظن أن الشاعر الفلسطيني كان يكتب للحب والحبيب، لم يرى بعد إشعاع قصائده التي أرعبت مابين عسقلان وتل أبيب. فإن كان شهيد العصر يحيى السنوار أرعب تل أبيب بعصا فإن محمود درويش أرعبها بشعر له صدى.