النشر العربي بين رهان الثقافة وسوق الخردة
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- فاس: محمد أمقران حمداوي
لم يعد النشر اليوم مجرد عملية بيع وشراء، ولا يمكن اختزاله في معادلة تجارية باردة، كما قد يظن البعض. فالنشر الحقيقي مشروع حضاري متكامل، يحمل بين دفتيه رؤى وأفكارا تسعى إلى بناء الإنسان قبل السوق، وتشكيل الوعي قبل تحقيق الأرباح.
فدار النشر، في صورتها النبيلة، ليست أقل أهمية من الجامعة أو المدرسة أو وسائل الإعلام. إنها المؤسسة التي تصنع الجسر بين الكاتب والقارئ، وتؤسس لحوار عميق بين الثقافات، لاسيما حين تنخرط في الترجمة الواعية التي تحفظ المعنى وتحمي روح النص.
لكن هذا الدور لا يتحقق إلا بوجود ناشر مثقف، صاحب مشروع، يرى في النشر أداة لتغيير المجتمع، لا وسيلة للربح السريع. ناشر يتعقب الأصوات الجديدة، ويخاطر بنشر التجارب الجريئة التي تكسر السائد وتطرح الأسئلة الحقيقية. لا ناشر يُكدّس الكتب كما تُكدّس البضائع، في معارض تحولت في كثير من الأحيان إلى أسواق للخردة الفكرية.
في الغرب، لم تولد دور النشر الكبرى من حسابات مادية، بل من رهانات ثقافية عميقة، صنعت أسماء كتّاب وفلاسفة كانوا مغمورين، فأصبحوا بفضل رؤية الناشر جزءا من الذاكرة الفكرية العالمية. لقد ساهم هؤلاء الناشرون في تشكيل الوعي العام، وتغذية الجامعات، وخلق تراكم نوعي في مجالات الأدب والفكر والنقد، بينما ما زال كثير من دور النشر العربية عالقة في منطق الكمية، والإنتاج السطحي، دون أفق واضح أو مشروع ثقافي جاد.
المعارض العربية للكتاب، في هذا السياق، تحولت إلى مرآة عاكسة لهذا الخلل. ففي الوقت الذي ينتظر فيه القارئ الجديد والمثير، يُفاجأ بسيل من الإصدارات الفارغة من أي محتوى معرفي أو جمالي، تُنشر لأجل النشر فقط، دون جرأة، ودون إبداع.
لذلك، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بجدية هو: ما هو دور الدولة في دعم النشر؟ هل الهدف هو توزيع الميزانيات، أم الاستثمار الحقيقي في صناعة فكرية؟ هل المطلوب دعم أي كتاب، أم اختيار المشاريع التي تضيف قيمة معرفية وتشجع الكتابة النوعية؟ وهل سيبقى الدعم مجرد روتين إداري، أم يتحول إلى رافعة لتحريك عجلة الثقافة الجادة؟
النشر العربي، إذن، يعيش بين خيارين: إما أن يكون أداة نهوض حقيقي، أو يتحول إلى صناعة متهالكة تُنتج “كتبا مستعملة” حتى في لحظة إصدارها. والرهان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على الناشر الذي يرى في نفسه شريكا في الإبداع، لا مجرد موزع، وعلى القارئ الذي يميز بين الغث والسمين، ويطالب بما يرتقي بذائقته ويغذي خياله.
إنها دعوة لمراجعة شاملة، تعيد للنشر العربي اعتباره، وللكتاب هيبته، وللثقافة دورها.