السيميائيات مفهومها وموضوعها “مبادئ أولية مقتضبة”

السيميائيات مفهومها وموضوعها “مبادئ أولية مقتضبة”

الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- إعداد: زايد الرفاعي / باحث في الخطاب الإعلامي

 

يعد الأمريكي “شارل ساندرس بورس” من بين الرواد والمؤسسين الفعليين لعلم السيميائيات / السيميوطيقا. هذه الأخيرة تعنى بقراءة ودراسة كيفية اشتغال العلامات داخل الحياة الاجتماعية، ابتداء من الأفعال والسوكيات اليومية والخطابات العادية، مرورا بالطقوس الاجتماعية، وانتهاء بالأنساق الأيديولوجية الكبرى (فريدناند دي سوسيور)؛ أي أن السيميائيات عنده نشاط معرفي شامل، فهي تهتم بكل ما تنتجه التجربة الإنسانية عبر مجمل لغاتها، ومن خلال كل أبعادها،

-إنها رؤية للعالم، تنظر إلى الوجود الإنساني من خلال وضعه كعلامة في الكون.

 

وقبل الإسهاب في تفصيل القول حول ماهية السيميائيات، سنحاول الإجابة عن مجموعة من التساؤلات والإشكالات أهمها ما هو موضوع السيميائيات؟ وما مفهوم العلامة عند بورس؟ وكيف تشتغل العلامة عنده؟

 

إن السيميائيات عند بورس ليست دراسة حياة العلامات فحسب، بل هي كذلك بناء فلسفي همه رصد وتتبع حياة الدلالات التي ينتجها الإنسان من خلال لغته وجسده وإيماءاته وفضائه وزمانه؛ أي كل ما يجربه ويمسه ويحيط به.. فهي دراسة وتحليل وتفكيك للفعل والسلوك الإنساني، غايتها مطاردة المعاني ومحاولة إمساكها (ومتعة السيميائيات في مطاردة المعنى لأن هذا الأخير لا موطن له)، وكذلك تسييج الدلالات التي ينتجها الإنسان ويستهلكها ويتداولها.

 

وكما هو معلوم في مجال النقد، فالسيميائيات عند “بورس” تقوم على ركيزتين ودعامتين أساسيتين: المنطق والظاهراتية.

 

إن المنطق عند بورس هو بمثابة الإسم الثاني للسيميائيات، وأهمية المنطق تتجلى في خاصيتين مركزيين، وهما مبدأي التدليل والإستدلال، حيث يشتغلان وفق قاعدة منطقية تعتمد عمليات ذهنية رياضية فكرية هدفها تحقيق الفهم والإفهام،؛ هنا تجدر الإشارة إلى أن مسألة الفهم في المجال السيميائي مسألة نسبية وذلك ما يؤكده “رولان بارث” من خلال عبارته:

“بين ما أفكر فيه، وما أريد قوله، وما أظن أنني قد قلته، وما قلتُه، وما تريد أنت سماعه، وما سمعته، وما ظننت أنك فهمته، وما تريد فهمه، وما فهمته حقا، هناك على الأقل تسعة احتمالات ألا نتفاهم “.

وكما قيل قديما “الغبي من يقول فهمت”.

 

بعبارة أوضح، السيميائيات في مجملها هي محاولة كشف وإكتشاف وتوضيح وبيان وتبيين.

وهي أداة لسبر أغوار كل ما هو ضمني، وفضح وتعرية كل ما هو متوار ومتخف، ببساطة هي لا تهتم أبدا بكل ما هو ظاهر ومباشر.

 

ثم يعتمد بورس مفهوم “الظاهراتية”، الذي يعتبر سؤالا فلسفيا ضخما لا يمكن فهمه في هذا السياق إلا بإنطلاقنا من مسلمة أن الكون يتسلل إلى حواسنا عبر شبكة غير محدودة من العلامات، بل إن الكون ليس كذلك إلا في حدود إشتغاله كعلامة، هنا أستحضر مقولة ” كريماس ” (إن العالم الذي نطلق عليه صفة الإنساني ليس كذلك، إلا في حدود إحالته على معنى ما).. مما يوحي على أن العالم الذي نحيا فيه لا ندركه إلا بإعتباره علامة، والإنسان بذلك طبعا علامة، وكل ما يستهلك ويتداول من وسائط هي علامات -أشياء كانت أم كائنات ام طقوس او أوهام وحقائق- وهو بذلك (الإنسان) ضحية للعلامة.

 

وحتى نفهم ماهية العلامة وموضوعها عند “بورس” لابد من الرجوع إلى الأسس الأولية الخاصة بالإدراك الإنساني التي تقود إلى إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها بعيدا عن إكراهات الإحالات المرجعية، وهي ما يطلق عليها بورس (المقولات الفلسفية) أو المقولات الفينومينولوجية أو مستويات الإدراك.. وهي تباعا الأولانية والثانيانية والثالثانية، هنا الأمر عنده متعلق بوصف الظاهر الذي يشكل المعطى المباشر والعفوي وغير الخاضع لأي تسنين مسبق، فهذه المقولات هي -ثلاثية المبنى- تشتغل كالآتي:

 

أول يحيل على ثاني بتوسط إلزامي هو الثالث؛ الحالة الأولى هي حالة محتملة فقط ولا يمكن التعامل معها بإعتبار وجودها الفعلي، لأنها تستجيب لحضورها الخاص، أو ما يسميه “دان سكوت” (الهنا و الآن)، وبالتالي فإن لحظة الأولانية خالية من أي قصدية فينومينولوجية، لأنها تشكل عالم الأحاسيس والمشاعر والنوعيات والإحتمال والممكن بعيدا عن تحققها وتجسيدها الواقعي والوجودي. مثلا؛ ماذا يعني الأحمر قبل أن يكون هناك شيء أحمر، وماذا تعني السعادة في انفصال عن حالات إنسانية تجسدها، فنقول: رجل سعيد…

وهذا هو دور الثانيانية التي تعطي للأشياء وجودها الفعلي لذلك فهي مقولة التتابع والتعيين والفعل، فمثلا؛ قول:

-الخروج- أصبح في هذه المقولة واقعة فعلية، فالثانية هي خروج من الإمكان إلى التحقق، فندركها ب(القميص الأحمر، والعلم الأبيض، والسعادة الفعلية والثوب الناعم، والطعام المر..) لنحصل على علاقة جديدة بين الأول والثاني، لكنها علاقة من دون توسط، إنها علاقة عرضية وهشة وتشير إلى تجربة صافية، تجربة تكتفي بوجودها المباشر، إنها الطبيعة خارج إكراهات الثقافة والتعيين، وخارج إكراهات الفهم والتجريد.

 

وللخروج من متاهات هذا التعيين الهش الذي لا يستقر على شيئ ثابث أو حالة بعينها، لابد من تصور مقولة ثالثة تبرر الرابط بين الأول والثاني وتمنحه بعدا قانونيا، أي بعد الضرورة والفكر.

 

إن الثالث هو مقولة التوسط الإلزامي الذي يلوث تلك التجربة الصافية بين الأول والثاني، لذلك فهي مقولة الرمزي، ومقولة المفاهيم والوجود الإستقبالي، (لكي تستمر حالة السعادة المتحققة هنا والآن، يجب تحديد جميع أنماط السعادة من خلال شكل كلي ومجرد يستوعب داخله كل حالات السعادة الممكنة) لذلك؛ فهي تشكل مقولة القاعدة والسنن الثقافي والخلفية المعرفية التي تمكننا من امتلاك إمكانات ووجوه مفاهيمية، يمكن إدراجها ضمن نماذج لا يجب أن تتطابق أبدا مع النسخة..(نحن نستطيع فقط الإمساك بالبعد الرمزي للتجربة الإنسانية، أي فقط إمتلاك النماذج التي تحيل على النسخ، وبعد إلتقاطها نقوم بتصنيفها ميكانيكيا ضمن الخانات الذهنية التي تستصيغها وتتطابق وعناصرها).

 

فالقانون والفكر والسنن المعرفي في مقولة الثالثانية تمكننا من إدراك (أن “سقراط إنسان” ومعناه؛ القول إنه إنسان يمتلك مجموع الخصائص التي تسند عادة إلى الفصيلة البشرية، والقول أن “الماس صلب” معناه القول مثلا؛ إننا لا يمكن أن نحدث خدوشا فيه من خلال أي آلة).

تجدر الإشارة إلى أن العوالم التي تغطيها “المقولات الفلسفية أو مستويات الإدراك” ليست منفصلة ببعضها عن بعض، كما قد يبدو ذلك ظاهريا، إنما النظر إليها منفصلة لا تمليه سوى الإكراهات التحليلية، أي أن إدراك الظاهرة يأتي دفعة واحدة، وهذا التجزيئ للمقولات إنما اقتضته الدراسة والتحليل.

 

وللتوضيح والتفصيل أكثر؛ في مستويات الإدراك، نفترض أن شخصا قرويا يعيش حياة بدائية، ولم يسبق له أن سمع كلمة (شاشة أو تلفاز) فإنك حينما تقولها له، لن يستجيب معك البتة لأنه لم يسبق أن سجل هاته المتوالية في ذهنه من قبل، وبالتالي سيبقى في حدود الأولانية أي “الماثول” وهذه الأخيرة بدورها سرعان ما ستسقط من تلقاء نفسها لأن بناءها في وعيه بناء هش وغير مكتمل الأركان، لكن؛ بعد أن تريه شكلها (الشاشة) أو تعطيه تفاصيل مكوناتها -هذه الوسائط- ستتحول إلى تجربة ومعرفة ومكتسب وسنن، من خلالها سيمتلك نسخة من النموذج الأصل، ويسجله تلقائيا في خانات ذهنه، وسيستحضرها ويسترجعها بذلك عند الحاجة التواصلية, وقس على ذلك من الأمثلة).

 

صفوة القول؛ أن الأول يفتح السلسلة على كل الإحتمالات الممكنة، والثاني يغلقها، والثالث يضع حدا للإحالات من خلال إدراج القانون أو القاعدة.

 

إن نظرية المقولات، هي منطلق سيميائيات “شارل ساندرس بورس” من أجل صياغة حدود علمه، فكل العناصر المكونة للعلامة وكذا نمط اشتغالها ووظيفتها ليست سوى الوجه المرئي لهذه القاعدة الإدراكية،

والعلامة عند بورس في وجهها المرئي والمادي تبنى بإعتبارها كيانا ثلاثيا أيضا، يضع للتداول ثلاث عناصر هي المكونات الأساس لاشتغال الدلالة وإنتاجها واستهلاكها.

 

إن البناء الثلاثي للعلامة عند بورس كالتالي : (ماثول يحيل على موضوع بتوسط مؤول).. وهذه العناصر الثلاث تندرج ضمن ما يطلق عليه ساندرس بورس ” السيميوز” أو ” سيرورة التدليل “.

والسيميوزيس عنده يشتغل من خلاله شيئ ما، بإعتباه علامة، شريطة أن يوحي على معنى ما، والسيميوز هو سلسلة من الإحالات المتتالية وسيرورة لا متناهية من السياقات الداخلية التي لا يمكن أن تنتهي -نظريا على الأقل- عند نقطة بعينها، ذلك؛ أنها حين تتوقف فإن ذلك يكون لتحقيق غرض أو قصد ثم تستمر.

 

فالثابث في العلامة أنها ماثول يحيل على موضوع عبر مؤول، ويمكن لهذا المؤول أن يصبح ماثولا جديدا يحيل على موضوع عبر مؤول، هو الآخر يمكن أن يصبح ماثولا يحيل إلى موضوع عبر مؤول، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.

شاهد أيضاً

استعدادات مكثفة لتنظيم النسخة الثالثة لمهرجان سينما المدارس

استعدادات مكثفة لتنظيم النسخة الثالثة لمهرجان سينما المدارس الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- مراسلة: الكبير الداديسي …

تهريب الجمع العام لجمعية الأعمال الإجتماعية لموظفي وزارة الثقافة

تهريب الجمع العام لجمعية الأعمال الإجتماعية لموظفي وزارة الثقافة الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- *بقلم/ الدكتورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *