المغرب: الحضور اليهودي بآسفي عبر العصور
الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- بحث وإعداد: محمد غازي.
أولا : مما ورد في مقدمة كتاب ” دراســات في تـاريخ يهـودآسـفي” للأستاذ الباحث (كريدية إبراهيم) : من أبرز دواعي إقدامي على كشف هذه الوقائع والأحداث المتفرقة التي تخص تاريخ يهود آسفي، هو إحساسي الراسخ والصادق العميق، وإيماني المكين الثابت ،بأن من أكتب عنهم هم مغاربة قلبا وقالبا، وليسوا دخلاء عارضين كما يتوهم البعض، فهم يضربون بجذور وجودهم عميقا في أرض المغرب وتاريخه السحيق وثقافته وتراثه، كانوا دوما و أبدا مكونا من مكونات المجتمع المغربي وكيانه وحضارته، ولا يمكن بأي حال إقصاؤهم عن المسار التاريخي لهذا البلد ، بكل نقلاته ومنعطفاته وتعرجاته، وأنهم كانوا وما زالوا حتى اليوم، سواء تواجدوا بوطنهم المغرب أو بأرض المهجر، فخورين بمغربيتهم ، متمسكين بجانب كبير من العادات المغربية الأصيلة، في الملبس والأكل وفي الأعياد والمناسبات العائلية، وما زالوا جميعهم حريصين على تقديم فروض الطاعة والولاء لعاهل المغرب في مناسبات معلومة، وما تزال بيعهم تصدح له بأخلص الدعوات ورفيع الابتهالات بالمغرب والمهجر على السواء، ولا يخفى ذلك على كل مبصر لبيب،كما يعاينه كل متغافل مريض، وقديما قالت العرب “ليس بعد العيان بيان “.ورغم ما لحق العلاقات بين اليهود و المسلمين المغاربة من برود وإفساد وحتى عداء متبادل، كان سببه الجوهري مكائد الأجنبي والاستعمار والتسرب الصهيوني ، فإن غالبية اليهود المغاربة ظلت وفية للدولة المغربية ، مخلصة تمام الإخلاص للعرش، ورغم مـا أصاب عدد يهود المغرب من تراجع وضمور، بفعل إغراءات الهـجـرة الخارجية فإنهم وبما تبقى منهم على قلته، “يمثلون أهم مجموعة يهودية في العالم العربي”، ناهيك عن أعداد كبيرة منهم ما تزال تحج كل سنة إلى وطنها المغرب، من مهاجرها المختلفة وحتى القصية منها، لزيارة ذويها، أو بدافع الحنين إلى أوطانها الأصلية من ربوع المغرب المديد، أو لزيارة مشاهير الأولياء اليهود، والتبرك بهم وحضور مواسمهم السنوية (الهيلولا).وعبر العصور والدول لم يدخر المغاربة اليهود الجهود في سبيل ترقية علاقات المغرب بالخارج ، والنهوض بأحوال تجارته وصنائعه وفنونه، ومد خزائنه بالمال الوفير من الفروض والأعشار، فكان منهم الوزير والمستشار والقنصل والمفاوض الدبلوماسي والمفكر والفيلسوف والطبيب والحيسوب والتاجر والصانع والفنان والعامل البسيط ، فقد كانوا دائما “عضوا نافعا، بل ولابد منه، بحيث أن استئصاله القريب العهد، ترك الإحساس إلى يومنا، بحدوث بتر في هذا الكيان الكليوأنا إذ أخص يهود مسقط رأسي، آسفي بهذه المحاولة، فإني أحب أن يكون لتاريخهم مكان بين أبحاثي، التي تسعى إلى استكشاف درر تاريخ هذه الحاضرة العريقة المصونة، التي كانت أرضا هنية للتساكن والتعايش والتسامح والتكاثف بين المسلمين واليهود المغاربة، ويعلم الله وحده ما بذلته من وقت وجهد لتجميع مادته التاريخية، وتمنيت أن أنجز أكثر مما أنجزت، ولكني لم أفلح، لأن الأمر يحتاج إلى أسفار لا أقدر على توفير مصاريفها.
فأحببت نشر هذا البحث على قلة دراساته وصفحاته، قبل أن يضيع مني، راجيا أن يكون حافزا لغيري من الباحثين على مزيد من التنقيب والبحث الموسع ، والله أسأل النفع فيما قدمت، وهو أعلم بما تخفيه النفوس والسرائر.
ثـانـيــــــا : و في الفصل الذي اختار له عنوان “الحضور اليهودي بآسفي بين الماضي والأمس القريب ” يقول الأستاذ الباحث : كانت مدينة آسفي وعلى مر العصور والدول، تحتضن ساكنة يهودية مهمة، تميزت بكبر عددها، وقوة فعل تأثيرها في حياة المدينة بمختلف جوانبها ، وباستقراء مكنون أسماء العائلات اليهودية المتأخرة بآسفي، يمكن إجلاء وكشف بعض الحقائق عن الأصول البعيدة ليهود هذه المدينة ، ومنها :
1-أن قسما من يهود آسفي، كانوا من الأمازيغ الأقحاح لحملهم أسماء أمازيغية ، مثل ملو ووزانا وويزمان وأمزلاغ وأزنكود وخنافو، لاشك أن قسما منهم كانوا من أهالي المنطقة، من بربر المصامدة، والباقين وفدوا على آسفي من مناطق بربرية بعيدة ونائية، عبر عصور مختلفة، وقد كانوا منذ أحقاب مغرقة في القدم متمسكين بالديانة اليهودية، التي دخلت إلى المغرب في وقت مبكـر من ظهورهـا، وأقبلت على اعتناقها عدة قبائل أمازيغية، لوجود ميل فيها إلى الأخذ بالوحدانية في المعتقد.
2- أن قسما آخر من يهود آسفي، تشي أسماؤهم بأنهم جاءوا إلى آسفي من مناطق قصية، كأفلو نسبة إلى تافيلالت، والدرعي نسبة إلى بلاد درعة، وابن السوسي نسبة إلى بلاد سوس، وبلفاسي نسبة إلى فاس ؛ ومثل هذه الهجرات البعيدة كانت من العوائد المعروفة عند يهود المغرب، وذلك في كل العصور، فقد كانوا يجوبون المغرب من أقصاه إلى أقصاه، وحتى في الأوقات العصيبة ، التي يختفي فيها الأمن والاستقرار،” أثناء تغيير السلطة أو الحروب الأهلية “.
3- أن قسما ثالثا من يهود آسفي كان يحمل أسماء إيبيرية، تنسب بكيفية صريحة إلى مواقع توجد بإسبانيا والبرتغال، أو تنحـدر
مباشرة من اللغة الإسبانية أو اللغة البرتغالية، ومن ذلك أسماء كوركوس Corcos ومورسيانو Murciano (Cool وكبايو Caballo وبميينتا Pimienta ومورنو Moreno وبارينيتي Pariente وكابسا Cabeza، وقديدا وبينيتو وطابييرو، وهذه الجماعة تنحدر من اليهود الذين طردوا من إيبيريا ، في نهاية القرن الخامس عشر ، ولئن كان عدد الوافدين منهم على آسفي محدودا، قياسا إلى الأعداد الكبيرة التي وفدت منهم على مدن الشمال المغربي ، فقدكانت لهم –على قلتهم – أفضال كثيرة ومحمودة في إغناء العقيدة والثقافة اليهودية بآسفي، وترقية عدد من حرف هذه المدينة، وتنشيط تجارتها الداخلية والخارجية ، مما جعلهم يتميزون ويجنون من نبوغهم الفكري والحرفي غنى ونفوذا ووجاهة وصيتا حسنا على الصعيد المحلي والوطني وحتى الخارجي ، امتد عبر الدول والعصور.
ويبدو من إحصائيات جمعناها من مصادر مختلفة ، أن الساكنة اليهودية بآسفي ظلت وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين وازنة، بثقل عددها، وعلى الرغم مما يلاحظ على هذا العدد من تراجع وتنافر كبير فيما بينه وبين عدد ساكنة المدينة من المسلمين، فإن يهود آسفي وبعد قراءة الإحصائيات المتوفرة من زاوية التقابل والتناسب، يتأكد أن عددهم لم يفقد أهميته حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، ولم يتبدل وزنه مع توالي السنون وتغير الدول والأحوال، إذ نجد :
1- حوالي سنة 1508،كان كل كانون يهودي يقابله أربعون كانونا مسلما .
2- في سنة 1631 ،كان يوجد مقابل كل يهودي بآسفي أربعة من المسلمين .
3- في سنة 1856، ورغم البون الشاسع بين هذه السنة والتي ذكرت قبلها، بقيت نسبة اليهود كما هي تقريبا يهودي واحد لكل ثلاثة مسلمين.
4- في كل من سنوت 1918 و1926 و 1936 صار يقابل كل يهودي خمسة مسلمين .
5- في كل من سنتي 1921 و1931 أصبح العدد المقابل لكل يهودي هو ستة مسلمين.
6- في سنة 1941 صار العدد سبعة مسلمين.
7-في سنة 1947 غدا ثمانية مسلمين .
وقد نسج هذا التساكن والعمل مع اليهود بالمدينة والبادية علاقات اجتماعية متداخلة ومتشابكة ، جعلت من اليهود والمسلمين جماعة واحدة، وكثلة اجتماعية متداخلة ومتناغمة المصالح، رغم ما ينبض به داخلها من اختلاف في الشعائر والعوائد، وقد اتخذ هذا التآلف أكثر من صورة ومظهر ومنها نختار :
1- أن التساكن بين اليهود والمسلمين لم يقتصر على التجاور بين دار وأخرى، بل أن بعض اليهود والمسلمين كانوا يتقاسمون سكنى منازل بعينها، دون أدنى حرج أو تضايق، يخرجون معا إلى باحاتها، ويصعدون معا أسطحها، بعيدا عن كل حساسية دينية؛ وبهذه الوضعية، وفي غياب ملاح عازل بآسفي، كان اليهودي الآسفي بهذه العيشة الطبيعية الخالية من كل تباغض وتنافر وتفرقة، يحفظ إنسانيته وكبريائه، لأنه ككل يهود المغرب ،كان يعتبر العيش في الملاح، “إذلالا له أكثر منه حماية ” وقد تولد عن هذا التساكن والترابط في الجيرة والعيش، نشوء صداقات حميمة بين الجماعتين، كانت تتقوى بالمعاشرة والاختلاط، عبر زيارات ومسامرات في الأيام العادية، وفي الأعياد والمناسبات، وبين الحين والآخر كانت تطفح بزيجات بين يهوديات ومسلمين، ومنهم من ينتمي إلى أسر وعوائل ذات وجاهة واعتبار.
2-كان اليهود والمسلمون بآسفي منفتحين على معتقداتهم الدينية، بعيدا عن كل انغلاق أو تعصب، فقد كـان بعض اليهود يحفظون القرآن، ويدركون جانبا من صوره الإعجازية ، وكان يقوم بين بعض فقهاء المسلمين وبعض أحبار اليهود جدل ديني هادئ ومفيد ، كان يؤدي إلى علاقات حميمية، كالتي ربطت الربي أبراهام سيبوني Siboni مع عدد من الفقهاء المسلمين، كما يظهر من حكاية طريفة أوردها الزعفراني؛ وثبت من روايات أخرى أن عددا من مسلمي آسفي كانوا عارفين ببواطن وخفايا العقيدة اليهودية، وبدقيق حلالها وحرامها، وقد بلغ علم أحدهم بها مبلغا عظيما، حتى إذا انتقل إلى طنجة واختلط بيهودها، حسبوه حبرا من أحبارهم، وعاش بينهم بهذه الصفة زمنا طويلا قبل أن يكشفوا حقيقته .
وحتى عهد قريب لم يكن المخزن المحلي يتساهل في التسابب الديني بين اليهود والمسلمين، ويذكر أحد المسنين وكان “مقدما”، أنه إذا حصل أن لعن يهودي دين مسلم، فإن المذنب يضرب بالعصا، على قدميه مائة ضربة، ويحكم عليه بالطواف في المدينة، وهو يصيح : ” أنا تائب إلى الله فإني لعنت ملة المسلم “، ثم يزج به في السجن لمدة سنة كاملة ، ونفس الشيء كان يقع لكل مسلم سب دين يهودي .
3-كان العامة من اليهود والمسلمين يتقاسمون الإيمان بمعتقدات شعبية كثيرة ، ويمارسون ضروبا من الشعوذة والسحر، وتقوم نساؤهم بزيارات مشتركة ومستمرة لضريح أولاد ابن زميرو، وينسبون لنزلائه، أبرهام وإخوانه إسحاق وإسماعيل ويوسف ومن يرقد إلى جوارهم من أبناءهم، كرامات وخوارق، في قضاء الحاجات وعلاج الأمراض المستعصية ، وبشأنها أورد دوتي Doutté وشمعون ليفي قصصا سمعاها من يهوديين آسفيين :
– فقد ذكر الأول أن طفلا مسلما كان يعاني من شلل في أطرافه السفلى، تخلت عنه والدته بضريح أولاد زميرو، فشفي بقدرتهم الخفية، وأصبح ببركتهم يداوي كل مريض بالشلل من اليهود والمسلمين معا، وكان يعرف بالحاج عبد القادر .
ب- وذكر الثاني في قصة أخرى، جمع أحداثها بمدينة آسفي سنة 1973 ورد فيها أن رجلا مسلما يعاني من شلل، أقام بالضريح لمدة سبعة أيام وسبعة ليال ، فزاره أولياء بني زميرو في نومه، وطلبوا منه القيام والمشي، فأبى شاكيا عجزه، فألحوا عليه، فقـام ومشى خطوتين، ولما تيقن من شفاءه، “رفض مغادرة الضريح دون الحصول على شيء يرتزق منه فأعطوه قنينة بها ماء مبارك وقالوا له كل من جاءك مريضا المسه بهذا الماء وسيبرأ”، وكان هذا الشخص يدعى الهاشمي باغوغ ، ويضيف شمعون بأنه “كان لا يداوي إلا اليهود”، وقد ورثت عنه ابنته هذه القدرات الغريبة، وعلى يدها شفيت والدة راوي هذه القصة، وهو اليهودي ليون مغيرة .
4- كان مسلمو ويهود آسفي يشتركون في عشق فن الطرب الأندلسي والملحون ، ويظهر ذلك :
أ -من كثرة الأجواق التي كانت لهما بالمدينة، ومن وجود أجواق مشتركة، تحتضن عازفين ومنشدين من الجماعتين.
ب-ومن تألق منشدين من الجماعتين، في هذين اللونين الأصيلين من الغناء المغربي، من أمثال الفنان اليهودي كوهن السعدية وتلميذيه الفنانين المسلمين عبد الواحد الحكيم وشقيقه عبد القادر الحكيم .
ج- من وجود شعراء يهود، أبدعوا إلى جانب إخوانهم الشعراء المسلمين قصائد بديعة في الملحون، مثل قصيدة “أسيدي هاذ الرسول”، وهي ليهودي آسفي مجهول.
تلكم باختصار، كانت أمثلة تاريخية حية من الحضور اليهودي بحاضرة آسفي العريقة، وصورا جلية مقنعة من التداخل في العلاقات، التي كانت تؤلف بين الجماعتين المسلمة واليهودية بالمدينة، ساهمت من جهة في تقوية لحمة الوفاق والتآلف والتساكن بينهما، وأدت من جهة ثانية إلى بناء ثقافة مشتركة بينهما، لازالت بعض رواسبها حية حتى اليوم، وطبعت أهل هذه المدينة، قديما وحديثا، بشيم ومناقب القبول بالآخر والانفتاح عليه، واحترام اختلافه، واعتبار ذلك معينا لمزيد من الإغناء الفكري والثقافي، مما يجعل حاضرة آسفي في مقدمة المدن المغربية، التي تستحق أن نعتز بها، وأكثر من ذلك أن تكون مثالا متميزا، في إبراز قيم ثقافة التسامح والتآلف والتعايش والتساكن، التي طبعت جميع أطوار تاريخها القديم والحديث، والتي بات ترسيخها مطلوبا، وأكثر من أي وقت مضى في هذا العصر، الذي هو عصر العالمية والتواصل السهل والواسع بكل أبعاده وتجلياته.