الشاملة بريس-بقلم \ الكاتب و المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115] قال المفسرون: إنه الترك، والمعنى: ترك ما أُمر به، وقيل: من النسيان الذي يخالف الذكر.
روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ – عليه السلام -، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ[1] إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ[2]، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا، قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ، قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ، وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَأَبْرَزَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ”[3]، وفي رواية الترمذي: “وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ”[4]. وفي رواية: “فَمِنْ يَوْمِئِذٍ أُمِرَ بِالكِتَابِ وَالشُّهُودِ”[5].
قال بعض أهل اللغة: “النسيان ضد الذكر، والحفظ، وهو ترك الشيء على ذهول وغفلة”[6].
والنسيان أيضاً يُطلق على الترك، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237] أي لا تتركوا، وقال تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 126].
قال ابن كثير: “أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من نسيك، قال تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [الأعراف: 51]. فالجزاء من جنس العمل”[7].
قال ابن جرير وغيره: “﴿ وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾، فكذلك اليوم ننساك، فنتركك في النار”[8].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي”[9].
والنسيان صفة نقص، ولذلك نزه الله عز وجل عنها نفسه، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].
وقد رفع الله الحرج عن أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – فيما حصل لهم فيه نسيان، فعلمنا أن ندعو فنقول: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] قال الله: “قَدْ فَعَلْتُ”[10].
وروى ابن ماجه في سننه من حديث أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ”[11].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس- رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ”[12].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ”[13].
وآفة العلم النسيان، قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: “إن لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان”، وقال الزهري: “آفة العلم النسيان وترك المذاكرة“.
روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: “قَامَ فِينَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ”[14].
وينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد دائمٍ للقاء ربه، وألا يكون في غفلة ونسيان، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى ﴾ [الكهف: 24]. والشيطان يُنسي المؤمن الخير والطاعة، قال نبي الله موسى فيما حكاه الله عنه: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]. وقال تعالى: ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 19]. وقال تعالى: ﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42]. وقال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].
من الفوائد:
أولاً: رحمة الله بعباده عامة، وبأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – خاصة، حيث عُفي لها عن النسيان.
ثانياً: من ترك شيئاً من الواجبات نسياناً، رُفع عنه الإثم، وعليه أداؤه إذا ذكر.
ثالثاً: النسيان من صفات النقص، والله تعالى مُنَزَّهٌ عنه.
رابعاً: النسيان سبب لضياع الحقوق، وذهاب العلم، من أجل ذلك أمر الله بكتابة الحقوق، والإشهاد عليها، وأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بكتابة العلم، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282]. وقال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 282].
روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “قَيِّدُوا الْعِلْمَ”، قُلْتُ: وَمَا تَقْييدُهُ؟ قَالَ: “كِتَابَتُهُ”[15].
خامساً: من صفات المؤمن أنه يذكر ذنوبه، ويتوب منها، ويذكر الحقوق فيؤديها، ومن صفات الظالم أنه ينسى الذنوب، ويضيع الحقوق، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [الكهف: 57]. وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].
سادساً: الخوف على العلم أن يُنسى من صفات الأنبياء والصالحين، ولما خاف النبي – صلى الله عليه وسلم – من نسيان القرآن طمأنه ربه فقال: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6]. وقال: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17].
سابعاً: نسيان القرآن ونحوه مذمة؛ ولذلك أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَنْ لَا يَقُولَ المُؤْمِنُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: نُسِّيتُ”[16].
ثامناً: النسيان من وسائل الشيطان، ومن فضائل الرحمن، والفرق بينهما: أن الذي من الشيطان؛ نسيان الذكر والقرآن والخير، وما إلى ذلك من الحقوق، والذي يحبه الرحمن؛ نسيان الأحقاد وإساءة الأقارب، والأصدقاء، وسائر المؤمنين.
تاسعاً: إن النسيان يأتي بمعنى الترك، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]. وقال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67].
قال ابن جرير وغيره: “تركوا الله أن يطيعوه، ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته”[17].
اللهم ذكرنا ما نُسِّينَا، وعلمنا ما جهلنا، وانفعنا بما علمتنا يا كريم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
[1] والذاري: من صفات الله عز وجل، وهو الذي ذرأ الخلق، أي خلقهم.
[2] أي يضيء وجهه حسناً.
[3] مسند الإمام أحمد (4/128) برقم 2270 وقال محققوه حسن لغيره.
[4] برقم 3076 وقال حديث حسن صحيح.
[5] صحيح ابن حبان برقم 6134.
[6] مختار الصحاح للرازي ص658 والمعجم الوسيط ص920.
[7] تفسير ابن كثير (9/379).
[8] تفسير ابن جرير الطبري (7/5656).
[9] برقم 2968.
[10] صحيح مسلم برقم 125.
[11] برقم 2043 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/347) برقم 1662.
[12] صحيح البخاري برقم 597 وصحيح مسلم 684..
[13] صحيح البخاري برقم 6669 وصحيح مسلم 1155..
[14] برقم 3192.
[15] (1/303) برقم 369 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/41) برقم 2026.
[16] صحيح البخاري برقم 5032 وصحيح مسلم برقم 790.
[17] تفسير ابن جرير (5/4040).