أخبار عاجلة

حي بن يقظان لابن طفيل: الفلسفة والسياسة في قالب رمزي

حي بن يقظان لابن طفيل: الفلسفة والسياسة في قالب رمزي

الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- إعداد: ذ. زكية العروسي

 

تُعَدّ قصة حي بن يقظان لابن طفيل واحدة من أكثر الأعمال الفلسفية رمزية في التراث الإسلامي، حيث قدَّم الفيلسوف الأندلسي رؤية عميقة لعلاقة الإنسان بالمعرفة، والعقل بالوحي، والمجتمع بالسلطة. ورغم أنها تبدو في ظاهرها قصة فلسفية خالصة، إلا أنها تحمل بين طياتها رؤية سياسية مضمرة، تعكس موقف ابن طفيل من العلاقة بين الفيلسوف والحاكم، وبين الحقيقة والسلطة.

 

يبدأ النص برحلة حي بن يقظان، ذلك الطفل الذي نشأ في جزيرة منعزلة دون تدخل بشري، مكتشفًا الحقيقة من خلال العقل والتأمل في الطبيعة. هذه العزلة سمحت له بتكوين معرفة خالصة، قائمة على الاستنتاج العقلي والتجربة الحسية، حتى وصل إلى معرفة الله والفكر الصوفي العميق.

لكن هذه المعرفة، رغم نقائها، واجهت اختبارها الأكبر عندما التقى حي برجل قادم من المجتمع البشري، وهو أبسال، الذي كان يحمل فكرًا دينيًا تقليديًا. وعندما قرر حي الانتقال إلى المجتمع لنشر حكمته، اصطدم بجدار الواقع: الناس لا يستطيعون تقبُّل الحقائق المجردة، بل يحتاجون إلى تأويلات تتناسب مع عقولهم ومصالحهم. هذه النقطة تفتح الباب أمام تأويل سياسي عميق للنص.

 

يكشف ابن طفيل من خلال رمزيته عن مأزق الفيلسوف في الدولة. فالفيلسوف، مثل حي، يصل إلى المعرفة عبر العقل، لكنه عندما يواجه المجتمع، يكتشف أن الحقيقة المجردة قد تكون مدمّرة إذا طُرحت دون مراعاة طبيعة البشر. هذه الفكرة تتلاقى مع رؤية أفلاطون عن “المدينة الفاضلة”، حيث لا يمكن للحكمة أن تحكم إلا إذا كانت السلطة بيد الفلاسفة، أو على الأقل إذا كان الحاكم نفسه فيلسوفًا.

لكن ابن طفيل، خلافا لأفلاطون، يبدو أكثر تشاؤما. فالفيلسوف في قصته يقرر الانسحاب من المجتمع والعودة إلى عزلته، في اعتراف ضمني بأن الحكمة لا تجد لها مكانا في عالم تهيمن عليه المصالح والجهل والتقاليد السياسية الجامدة. هنا، يمكننا قراءة موقفه على أنه نقد للأنظمة السياسية في عصره، حيث كانت السلطة بيد رجال لا يعطون للعقل مكانه الحقيقي، بل يستخدمون الدين كأداة لضبط المجتمع.

 

أحد أبرز أبعاد حي بن يقظان هو العلاقة بين العقل والدين. فابن طفيل، رغم إيمانه بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، لا ينكر دور الدين في تنظيم المجتمع. لكنه يفرق بين المعرفة الحقيقية التي يصل إليها الفيلسوف، والتعاليم الدينية التي يحتاجها الناس العاديون. هذا يطرح سؤالًا جوهريا حول السياسة: هل يمكن للحاكم أن يكون فيلسوفا، أم أن من الأفضل أن يترك الفلسفة في برجها العاجي، بينما يستعمل الدين كوسيلة لضبط الجماهير؟

يبدو أن ابن طفيل يقدِّم إجابة غير مباشرة: الفلسفة للحكماء، والدين لعامة الناس. وهذا يذكِّرنا بتقسيم الفارابي للمعرفة بين الخاصة والعامة، حيث يرى أن الفلاسفة وحدهم قادرون على فهم الحقيقة، بينما تحتاج الجماهير إلى رموز وتأويلات تتناسب مع قدرتها على الفهم.

 

لا يمكن قراءة حي بن يقظان بعيدا عن سياقها السياسي. فابن طفيل، الذي عاش في بلاط الموحدين، كان يدرك التوتر القائم بين المعرفة والسلطة، وبين الفيلسوف والحاكم. ورغم أن قصته تحمل طابعا صوفيا وعقليا، إلا أنها تطرح سؤالا سياسيا خطيرا: هل يمكن للحقيقة أن تحكم؟ أم أن السلطة تحتاج دائما إلى شيء من الخداع والتأويل؟

الجواب الذي يقدمه ابن طفيل يبدو مريرا: الفيلسوف إما أن ينعزل في جزيرته، أو أن يضطر إلى تقديم تنازلات للواقع السياسي. في الحالتين، تبقى الفلسفة قوة هامشية، تتأمل العالم لكنها عاجزة عن تغييره.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر هل ما زال للقصائد صوت بيننا؟

في اليوم العالمي للشعر هل ما زال للقصائد صوت بيننا؟ الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- بقلم: …

احتفاء باليوم العالمي للشعر: أمسية شعرية تحتفي بالكلمة والإبداع

احتفاء باليوم العالمي للشعر: أمسية شعرية تحتفي بالكلمة والإبداع الشاملة بريس بالمغرب وأوروبا- فاس: محمد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *