الشاملة بريس-بقلم \ الكاتب و المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
مما لاشك فيه أن من أعظم الذنوب عند الله تعالى النفاق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].
والنفاق ينقسم إلى قسمين: اعتقادي وعملي، فأما الاعتقادي فهو على ستة أنواع: تكذيب الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو تكذيب بعض ما جاء به، أو بغض الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أو بغض بعض ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أو المسرة بانخفاض دين الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أو الكراهية لانتصار دين الرسول – صلى الله عليه وسلم.
فالمنافق في هذا القسم مؤمن الظاهر، كافر الباطن.
أما إيمانه الظاهر فإنه يشهد شهادة الحق، ويصلي ويصوم ويحج ويجاهد ويشارك المسلمين في شعائر الدين الظاهرة، كما هو حال المنافقين في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفي كل زمن يكون فيه الحق منصورًا، وأما كفره باطنًا فما يخفيه من التكذيب بالحق، وإضمار العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين.
قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].
وهذا الصنف من الناس هم أشد أعداء الله ورسوله، ولهذا كان جزاؤهم أعظم من جزاء الكافرين، قال تعالى: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 80].
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 84].
وقد فضحهم الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من موضع، ووصفهم بأنهم كذابون يصدون عن سبيل الله، وأنهم يستكبرون، كما وصفهم بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، ولا يعقلون. ومن أبرز سماتهم – قاتلهم الله – موالاتهم للكفار، وعقدهم اللقاءات معهم في العلن تارة، وفي السر تارات، قال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52].
وقال تعالى: ﴿ إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 25 – 28].
قال الشنقيطي – رحمه الله – في تعليقه على الآية الكريمة: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ… ﴾ [المائدة: 52]: هم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم، كما قال الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلون علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي – صلى الله عليه وسلم وأصحابه، زعمًا منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم إنهم لمع المسلمين، وبين في هذه الآية أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52].
وعسى من الله نافذة؛ لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي، والفتح المذكور قيل هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل الفتح الحكم، كقوله: ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [الأعراف: 89].
وعليه فهو حكم الله، بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل: هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول[1].
وقال أيضًا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]
قال بعض العلماء: إنها نزلت في المنافقين، وقال بعضهم: إنها نزلت في اليهود، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، وهو عداوة النبي – صلى الله عليه وسلم -، والتثبيط عن الجهاد، ونحو ذلك.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله[2].
القسم الثاني: النفاق العملي، وهو خمسة أنواع:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر“.
وقال مسلم في صحيحه: “إذا وعد أخلف” مكان “إذا أؤتمن خان”[3].
وقد ذكر ابن رجب أن من النفاق العملي أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك[4].
ولقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – لسعة علمهم، وعميق إيمانهم، يخشون على أنفسهم من النفاق، قال البخاري – رحمه الله – في صحيحه، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قال إبراهيم التيمي: “ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا”. وقال ابن أبي ملكية: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل”، ويذكر عن الحسن – رحمه الله – أنه قال: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135][5].
وروي عن الحسن أنه كان يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو: ما مضى مؤمن قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. اهـ[6].
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول لحذيفة: أسألك بالله يا حذيفة هل عدني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المنافقين؟ قال: لا ولا أزكي أحدًا بعدك[7].
فعمر – رضي الله عنه – لم يقل ذلك رياء، ولكن العبد كلما ازداد علمًا زاد خوفه من ربه، والصحابة لعظم خوفهم من ربهم، وسعة علمهم لم يكونوا يحتقرون الذنوب، بل كانوا يستعظمونها، ويخافون عواقبها، ففي صحيح البخاري عن أنس- رضي الله عنه – أنه قال: “إنكملتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – من الموبقات”[8].
قال أبوعبد الله: يعني بذلك المهلكات.
وفي صحيح البخاري من حديث زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه: قال أناس لابن عمر: “إنا ندخل على سلطاننا غنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدها نفاقًا”[9].
وإن من صور النفاق ما يطالب به بعض الناس الذين هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويدعون أنهم يريدون إصلاح المجتمع، ونفع الأمة، ويرددونه بين الفينة والأخرى من هتك للحجاب، والدعوة للتبرج والسفور واختلاط الشباب بالفتيات في الأعمال، ومقاعد الدراسة، وأن في قوامة الرجل على المرأة كبتًا لحريتها، فيطالبون بالمساواة، زعمًا منهم أن فيها إنصافًا وعدلًا بينها وبين الرجل، وإلى نشر الموسيقى في المدارس والمراحل التعليمية الأخرى وإلى تقليص المواد الدينية، وتخفيضها، وإلى قيادة المرأة للسيارة.
ومن صوره كذلك مطالبتهم للناس بالاعتماد على البنوك الربوية في بيعهم وشرائهم، وقروضهم، وسائر شؤونهم، وأن ما تأخذه البنوك من فوائد إنما هو لمصلحة المجتمع، ويدعم اقتصاده، وينشرون هذا عبر الصحف والمجلات، ووسائل الإعلام، قال تعالى: ﴿ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
إلى غير ذلك من المطالب والأساليب الماكرة التي يخططون لها ليلًا ونهارًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
________________________________________
[1] انظر: أضواء البيان (1/314).
[2] انظر: أضواء البيان (٥).
[3] البخاري برقم (٣٤)، ومسلم برقم (٥٨).
[4] جامع العلوم والحكم (2/481).
[5] صحيح البخاري، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[6] جامع العلوم والحكم (2/492).
[7] جامع العلوم والحكم (2/491) وانظر: رسالة الشيخ عبد الرحيم المالكي (النصيحة – والتحذير من الوقوع في الخطر الكبير) (ص ١٢-16).
[8] برقم (٦٤٩٢).
[9] برقم (٧١٧٨).